مصر تطلق مشاريع زراعية لمواجهة أزمة القمح
أكد الدكتور محمد عبدالكريم عمارة، الباحث بمعهد بحوث تكنولوجيا الأغذية، بمركز البحوث الزراعية، أن القمح لا يُعد مجرد محصول زراعي، بل يمثل حجر الأساس للأمن الغذائي العالمي. ويُساهم القمح في توفير ما يقارب 20% من إجمالي السعرات الحرارية والبروتين التي يستهلكها سكان العالم، مشيرًا إلى أن نحو 1.5 مليار شخص يعتمدون عليه كمصدر غذاء رئيسي، لا سيما في البلدان النامية.
وأوضح عمارة أن الأهمية الاستراتيجية للقمح لا تقتصر على الجوانب الغذائية فحسب، بل تمتد لتشمل أبعادًا اقتصادية واجتماعية، كونه عنصراً أساسياً في استقرار الدول. غير أن هذا القطاع الحيوي بات يواجه تحديات حادة على مستوى الإنتاج والتوزيع، نتيجة لتغير المناخ، والصراعات الجيوسياسية، واختلال سلاسل التوريد العالمية.
أهمية القمح في أمن الغذاء العالمي
يشكل القمح المصدر الغذائي الأهم في العديد من الدول الكبرى، مثل الهند والصين، حيث يوفر للفرد نحو 500 سعر حراري يوميًا. وقد شهد الإنتاج العالمي للقمح نمواً ملحوظاً خلال العقود الماضية، مما جعله من أكثر المحاصيل زراعة واستهلاكًا في العالم.
ورغم ذلك، تُواجه منظومة إنتاج وتجارة القمح عالمياً تقلبات عميقة، خاصة بعد الحرب الروسية الأوكرانية التي ضربت ثلث صادرات العالم من القمح، وأسهمت في ارتفاع أسعاره إلى مستويات قياسية. وقد أدى ذلك إلى تفاقم أزمات الغذاء في دول مستوردة مثل اليمن، وسوريا، ودول إفريقية عدة.
التحديات الكبرى: تغير المناخ والصراعات الدولية
أولاً: تغير المناخ وتأثيره على إنتاج القمح
بحسب دراسة حديثة نُشرت في مجلة "نيتشر فوود" في مارس 2025، فإن ارتفاع درجات الحرارة الناجم عن الاحتباس الحراري يهدد بتقليص الإنتاج الزراعي العالمي بنسبة تصل إلى الثلث، خاصة في المناطق ذات خطوط العرض المنخفضة. وتشير التوقعات إلى أن نصف الأراضي الزراعية في المناطق الاستوائية قد تصبح غير صالحة للزراعة مستقبلاً، ما سيزيد من تعقيد أزمة القمح.
ثانياً: الصراعات الدولية وتداعياتها
أدت الحرب في أوكرانيا إلى توقف صادراتها التي كانت تمثل نحو 9% من الإنتاج العالمي للقمح، إلى جانب تعطل حركة الشحن من موانئ رئيسية. كما تعاني دول منخفضة الدخل من صعوبات في تأمين وارداتها بسبب نقص السيولة وغياب الدعم الدولي الكافي.
على سبيل المثال، انخفض إنتاج القمح في سوريا بنسبة 40% نتيجة الجفاف، بينما تعجز الحكومة عن استيراد الكميات الكافية بسبب تراجع العملة المحلية وانخفاض الدعم الدولي.
السياسات الدولية لتعزيز أمن القمح
في ظل هذه التحديات، تعمل المؤسسات الدولية على تطوير آليات لضبط سوق القمح العالمي. وتُعد اتفاقية الحبوب الدولية أبرز هذه المبادرات، حيث تهدف إلى تشجيع التجارة العادلة، وتبادل المعلومات، وتقليل التقلبات الحادة في السوق.
وتضم الاتفاقية أكثر من 35 دولة، وتسعى إلى إزالة الحواجز التجارية وتوفير آليات استجابة سريعة لحالات الطوارئ الغذائية، إضافة إلى دفع الدول نحو اعتماد سياسات إنتاج مرنة ومستدامة.
الابتكار الزراعي واستنباط أصناف مقاومة
يشكل الاستثمار في البحث العلمي والتطوير الزراعي إحدى الركائز الأساسية لتحقيق الاستقرار في إنتاج القمح. وتركز الجهود على تطوير سلالات قمح مقاومة للحرارة والأمراض، إلى جانب استخدام تقنيات الزراعة الدقيقة والري الذكي لرفع الإنتاجية وخفض الفاقد.
الواقع المصري: تحديات وفرص
استهلاك مرتفع واعتماد على الاستيراد
تُعد مصر من أكبر الدول المستوردة للقمح في العالم، حيث يتجاوز استهلاكها المحلي ملايين الأطنان سنويًا، ما يضع ضغوطاً هائلة على موازنتها الاقتصادية، خاصة مع استمرار النمو السكاني الذي يتجاوز مليوني نسمة سنويًا.
ندرة المياه وزيادة الطلب
تواجه مصر تحدياً خطيراً يتمثل في شح المياه، كونها من أفقر دول العالم في تساقط الأمطار، وتعتمد بشكل شبه كلي على مياه نهر النيل، الذي يواجه بدوره ضغوطاً من دول المنبع والتغيرات المناخية. ويتزامن ذلك مع ارتفاع معدلات الاستهلاك المحلي من القمح نتيجة النمو السكاني المتسارع.
جهود مصرية لتعزيز الأمن الغذائي
1. مشروع “مستقبل مصر” والدلتا الجديدة
تسعى مصر من خلال مشروع "مستقبل مصر" الزراعي لاستصلاح نحو 1.05 مليون فدان من إجمالي 2.2 مليون فدان في نطاق الدلتا الجديدة، باستخدام تقنيات ري حديثة وتكنولوجيا زراعية متقدمة.
2. دعم صغار المزارعين والقطاع الخاص
تعتمد الدولة على دعم المزارعين بالبذور المحسّنة، وتوفير مدخلات الإنتاج بأسعار مدعومة، وتشجيع مشاركة القطاع الخاص في سلاسل التوريد والإنتاج.
3. تحسين إنتاجية الفدان
تتبنى مصر زراعة أصناف قمح مقاومة للجفاف وعالية الإنتاجية، إلى جانب تدريب المزارعين على أفضل الممارسات الزراعية من البذر حتى الحصاد.
4. تعزيز سعة التخزين وتقليل الفاقد
قامت الدولة ببناء صوامع حديثة للحفاظ على جودة المحصول وتخفيض نسبة الفاقد التي كانت تمثل عبئًا كبيرًا في السابق.
نظرة مستقبلية
يمثل القمح محورًا استراتيجياً في معادلة الأمن الغذائي المصري والعالمي، في ظل ما يشهده العالم من تحولات مناخية واقتصادية متسارعة. ولا يمكن تحقيق الاكتفاء الذاتي دون شراكات فاعلة، وسياسات ذكية، واستثمار حقيقي في الزراعة الحديثة والموارد الطبيعية.
في الوقت الذي تسعى فيه مصر إلى تقليل اعتمادها على الخارج، يظل التعاون الدولي، والبحث العلمي، وتطوير البنية التحتية الزراعية، مفاتيح رئيسية لضمان أمن القمح واستقرار الغذاء للأجيال القادمة.


.jpg)























