الجمعة 19 أبريل 2024 مـ 09:35 صـ 10 شوال 1445 هـ
موقع الأرض
رئيس مجلس الإدارةخالد سيفرئيس التحريرمحمود البرغوثيالمدير العاممحمد صبحي

أبو منجل يتبختر في سوق الجمعة

التنوع الحيوي في مصر والتراث التاريخي والخريطة الوراثية)

دكتور قاسم زكى  أستاذ الوراثة بكلية الزراعة، جامعة المنيا
دكتور قاسم زكى أستاذ الوراثة بكلية الزراعة، جامعة المنيا

كثيرا ما شاهدنا مومياء طائر "أبو منجل" المقدس (Ibis) عندنا في جبانة تونة الجبل الأثرية (50 كم جنوب مدينة المنيا في صعيد مصر)، وكذا كثير من تماثيله ومياوماته بالمتاحف وصوره المنقوشة على جدران المعابد والمقابر والمسلات (1)، لكن الشوق دوما يجذبنا لمعرفة اين ذهب هذا الطائر واختفي من أجواء مصر المحروسة، ولماذا لم يبق كأصدقاء الفلاح (الهدهد وأبو فصاده وأبو قردان). وأخيرا وأنا اتابع بضائع سوق الجمعة بالسيدة عائشة بالقاهرة (يمثل سوق شعبي للتنوع الحيوي)، فوجئت بمشاهدة أحد الباعة يعرض طائر أبو منجل للبيع. أين كنت أيها المعبود "تحوت" وسماء مصر تسأل عنك وأبنائها يتوقون لرؤيتك حيا، لا ليس نقشا على جدران او مومياء في كفن.

كان اكتشاف جبانة تونة الجبل الموجودة في مركز ملوي بمحافظة المنيا، والتي تعود إلى القرن السابع قبل الميلاد، أكبر دليلا على قدسية أبو منجل (2)، فقد عُثر داخلها على سراديب ممتدة بها نحو 4 ملايين من مومياوات الطائر المقدس (3)؛ كما تم اكتشاف 1.75 مليون طائر محنط في مقبرة سقارة القديمة قرب الجيزة (4) وأماكن أخرى عديدة في خريطة مصر. وجدت تلك الطيور محنطة ومكفنة بلفائف الكتان، بنفس الطريقة التي ُكفن بها قدماء المصريين وملوكهم، ووضعت داخل توابيت من الحجر أو الفخار (5). وظل أبو منجل يشغل عقول الأثريين والباحثين عن أهميته في الحضارة الفرعونية القديمة (6). فقد كان يُمثل الإله تحوت (إله الحكمة والكتابة والسحر والأدب والعلم، كما أنه يشترك في حساب الموتى)، وكان له مكانة خاصة عند المصريين القدماء (2). فكيف جمعوا وحنطوا الملايين منه.

تحوت أو توت إله الحكمة عند الفراعنة. أحد أرباب ثامون الأشمونين الكوني (2). يعتبر من أهم الآلهة المصرية القديمة، ويُصور برأس أبو منجل.. نظيره الأنثوي الإلهة "ماعت" (إلهة العدل والحق) ولقد كان ضريحه الأساسي في مقاطعة الأشمونين (جبانتها تونة الجبل) حيث كان المعبود الأساسي هناك. اعتبر قدماء المصريين أن الإله تحوت هو الذي علمهم الكتابة والحساب، وهو يصور دائما ماسكا بالقلم ولوح يكتب عليه (2، 6). له دور أساسي في محكمة الموتى حيث يؤتى بالميت بعد البعث لإجراء عملية وزن قلبه أمام ريشة الحق ماعت. ويقوم تحوت بتسجيل نتيجة الميزان. إذا كان قلب الميت أثقل من ريشة الحق - فيكون من المخطئين العاصين - يُلقى بقلبه إلى وحش مفترس تخيلي فيلتهمه وتكون هذه هي النهاية الأبدية للميت. أما إذا كان القلب أخف من ريشة الحق (ماعت)؛ فمعنى ذلك أن الميت كان صالحا في الدنيا فيدخل الجنة يعيش فيها مع زوجته وأحبابه، بعد أن يستقبله أوزيريس (2).

ويقول الكاتب وعالم المصريات الأميركي "جون أنتوني ويست" "John Anthony West؛ 1932-2018م" في كتابه «ثعبان السماء» "Serpent in the Sky" (6) عن أسباب الربط بين أبو منجل وبين الكتابة. إن «سلوك الطائر والطريقة التي يحرك بها منقاره المقوس في المياه الضحلة بحثاً عن الطعام، وأسلوب التقاطه للحشرات من الأشجار يشبه طريقة الكتابة. كما أن طريقة تحريكه لرأسه ومنقاره تشبه طريقة تحريك اليد وهي ممسكة بالقلم".

لكن طائر أبو منجل المصري القديم المقدس (Threskiornis aethiopicus)، الذي ملأت مومياواته وتصدرت صوره مقابر القدماء واتخذته جامعة القاهرة شعارا لها، اختفي تماما من سماء مصر قبل ‏مئة وسبعون عاماً‏ تقريبا (7),‏ باستثناء أعداد قليلة لا تتجاوز ‏15‏ طائرًا‏، كانت حديقة حيوان الجيزة تحتفظ بها؛ ونحمد الله بدأت النجاحات تسجل في المحافظة عليه، فمع منتصف العام 2009م، عاد يصدح من جديد قرابة 27 طائرا (لكن) في حديقة حيوان الجيزة (8).

وطائر أبو منجل المصري هذا أحد الطيور المائية من جنس أبو ملعقة ويتبع عائلة أبو منجليات وأهمها نوعان: أبو منجل الأسود، وأبو منجل المقدس (الأبيض) ذو الريش الابيض للجسم وراس وذيل ومنقار أسود اللون، وهي طيور خواضة ذات منقار طويل ورفيع ومنحني للأسفل (يشبه أداة حصاد المحاصيل الزراعية " المنجل") وساقين طويلتين، ويبلغ طوله قرابة 75 سم بينما وزنه قرابة 1.5 كجم، وتصل المسافة بين جناحية المفرودين حوالي 135 سم. يعيش في الأقاليم الدفيئة في نصفي الكرة الأرضية الشمالي والجنوبي. وأبو منجل المقدس كان يعيش على ضفاف النيل وشواطئ البحيرات والترع والمستنقعات وربما أطراف الصحاري المصرية (9). ويعرف أحيانًا باسم "الطائر الناسك" بسبب حبه للانعزال في المناطق البعيدة، حيث يتكاثر في جروف صخرية أو منحدرات جبلية يصعب الوصول إليها.

يبلغ طائر "أبو منجل" جنسيا عندما يصل من العمر 12 شهر، وتضع الأنثى من 2 إلى 5 بيضات في موسم الربيع أو الخريف، يتبادل الأبوان في احتضان البيض لمدة تتراوح بين 21 إلى 29 يوما، وبعد الفقس، يبقى أحد الوالدين بشكل مستمر في العش لأول 7 أيام، وبعد 48 يوما يستقل الصغار عن أبويهما، وأبو منجل من النوع الذي يعيش لفترات طويلة من العمر، حتى أنه قد يعيش ليصل إلى 30 سنة. ويتغذى على الأسماك المختلفة، والضفادع، والثدييات الصغيرة والزواحف والطيور الصغيرة، وكذلك الحشرات (9).

علم الوراثة وأبو منجل:

نجح فريق بحثي دولي قادته الباحثة المصرية الأصل الدكتورة "سالي واصف" (Sally Wasef) من جامعة "جريفيث" الأسترالية (Griffith University)، بالتعاون مع عدة جامعات دولية أخرى من مصر، إنجلترا، الدانمارك، نيوزيلندا، استراليا، جنوب أفريقيا، ومشاركة وزارة الأثار المصرية في إعداد أول خريطة وراثية لطائر أبو منجل الفرعوني، ونشرت نتائجها في 13 نوفمبر 2019م في العدد (11) من المجلد (14) لدورية «بلوس وان» (PLOS ONE) (8). جمع الفريق البحثي عينات الحمض النووي (DNA) من 40 مومياء لأبو منجل يرجع تاريخها إلى نحو 2500 سنة مضت، من ستة مقابر مختلفة للطائر من ثلاث أماكن متفرقة في مصر (سقارة، تونة الجبل، ابيدوس)، وأيضا عينات من مقتنيات أشهر ثلاثة متاحف عالمية (بريطانيا، فرنسا، الولايات المتحدة الامريكية). وللمقارنة جمعوا 26 عينة من طيور أبو منجل البرية التي تعيش حاليا في 10 دول افريقية مختلفة.

وكانت المفاجأة التي وجدوها أن مدى التنوع الوراثي لأبو منجل المحنط كان كبيرا، لكن كان مشابهاً لمدى التنوع الوراثي في الطيور البرية الحالية، ولا توجد اختلافات معنوية بينهما. وهذا يدل على أن المصري القديم كان يصيد تلك الطيور من موائلها الطبيعية، أو ربما يتم تربيتها لفترة محدودة فقط من السنة في موسم التضحية بها في الطقوس التعبدية. لأنه لو كانت الطيور قد تم تدجينها وتربيتها لفترات طويلة، فستكون النتيجة المتوقعة هي انخفاض مدى التنوع الوراثي بينها.

وهكذا تلاق التراث التاريخي والتنوع الحيوي وتفسير بعض اسرار الحضارات القديمة بنتائج دراسات علم الوراثة، وثبت ان ملايين طيور أبو منجل التي حنطها المصريون القدماء بعد تقديمها كأضحية ونذر، لم يتم تربيتها كما كان يعتقد، بل كانت تجمع قبل موسم التضحيات.