نقطة زيت... وقرار مصيري

في ظل أزمات متلاحقة تضرب العالم، من الحروب والصراعات إلى التغيرات المناخية واضطرابات سلاسل الإمداد، تجد مصر نفسها في موقف شديد الحساسية فيما يخص أمنها الغذائي، خاصة في قطاع الزيوت النباتية. فمع استيرادنا لأكثر من 98٪ من احتياجاتنا من الخارج، بات أي خلل عالمي ينعكس فورًا على المواطن المصري، سواء في السعر أو التوافر.. الزيوت ليست مجرد مكون في الطهي، بل عنصر غذائي أساسي يدخل في إنتاج الطاقة ونقل الفيتامينات الذائبة في الدهون مثل A وD وE و K. كما تدخل في الصناعات الغذائية والمخابز والمطاعم، ما يجعلها مادة استراتيجية تمس استقرار الغذاء اليومي للأسرة المصرية.
التحديات أمامنا كثيرة، أولها الاعتماد شبه الكامل على الاستيراد من دول مثل أوكرانيا، روسيا، إندونيسيا، والأرجنتين، وهي دول تواجه أزمات تصدير أو مناخ قاسٍ يؤثر على المحاصيل. ثانيًا، ارتفاع تكاليف الشحن والتأمين عالميًا، بالتزامن مع ضعف الجنيه المصري، ما أدى لارتفاع أسعار الزيوت بنسبة فاقت 60٪. ثالثًا، غياب الرقابة الفعالة على التخزين والتوزيع، والإسراف الكبير في الاستخدام، خاصة في قطاع المطاعم. أما رابعًا، فهو ضعف الوعي باستخدام الزيوت بطريقة آمنة، حيث تؤدي إعادة القلي بشكل متكرر إلى تكوين مركبات ضارة..
رغم هذه التحديات، هناك نماذج ناجحة يمكن الاستفادة منها. فمثلًا، في ألمانيا يتم تحويل الزيوت المستعملة إلى وقود حيوي بنسبة تتجاوز 90٪. وفي الهند، أدى التوسع في زراعة النخيل إلى تقليل فاتورة الاستيراد بنسبة 30٪. أما ماليزيا، فاستثمرت في البحث الزراعي لتصبح من كبار مصدري زيت النخيل، وتونس ركزت على جودة زيت الزيتون والتعبئة والتسويق لتصبح من كبار المصدرين في المنطقة..
بالنسبة لمصر، لدينا فرصة ذهبية لإعادة بناء منظومة الزيوت من خلال عدة محاور. أولًا، التوسع في زراعة المحاصيل الزيتية مثل القطن، السمسم، دوار الشمس، وفول الصويا في الأراضي الجديدة، وتحديث زراعات الزيتون في الساحل الشمالي وسيناء. مصر تملك ميزة نسبية فريدة كدولة متوسطية مناسبة تمامًا لإنتاج زيت زيتون عالي الجودة يلبي الطلب العالمي المتزايد، ويمثل فرصة تصديرية قوية تعزز الميزان التجاري وتدعم الاقتصاد الوطني..
ثانيًا، لا بد من ترشيد الاستهلاك ورفع الوعي المجتمعي، عبر حملات توعوية في المدارس، مراكز الشباب، والمطاعم، تشرح الفرق .بين أنواع الزيوت واستخدام كل نوع في موضعه الصحيح، مع نشر كتيبات إرشادية للطهاة والمستهلكين حول مخاطر تكرار القلي وكيفية قياس جودة الزيت باستخدام مؤشرات مثل.TPM.
ثالثًا، تطوير صناعة إعادة تدوير الزيوت المستعملة، وتحويلها إلى منتجات صناعية أو وقود حيوي. وهذا يتطلب إنشاء مصانع محلية لجمع وتكرير الزيوت، وتغليظ العقوبات على تداولها العشوائي، مع إشراك القطاع الخاص في إنشاء مراكز تجميع وخطط رقابية فعالة.. وأخيرًا، تحتاج مصر إلى سياسات داعمة وتشريعات رقابية ذكية، منها فرض ضرائب على تصدير الزيوت الخام دون معالجة، وتسهيل تمويل مشروعات استخلاص وتكرير الزيوت، وتشجيع التعاون مع دول أفريقية مثل السودان لتأمين مصادر بديلة بأسعار مناسبة.
خلاصة القول، الأزمة التي نعيشها اليوم قد تكون فرصة نادرة لإعادة هيكلة قطاع الزيوت والدهون في مصر على أسس أكثر استدامة. بتطبيق هذه الحلول، يمكننا تقليل الاعتماد على الخارج، وتعظيم القيمة المضافة، وتحقيق أمن غذائي حقيقي يعبر بمصر إلى مستقبل أكثر أمنًا وكفاءة..
* رئيس قسم الزيوت والدهون – المركز القومي للبحوث