الجمعة 29 مارس 2024 مـ 03:33 مـ 19 رمضان 1445 هـ
موقع الأرض
رئيس مجلس الإدارةخالد سيفرئيس التحريرمحمود البرغوثيالمدير العاممحمد صبحي

من «داخل الصندوق» ضد أسعار القمح الروسي

محمود البرغوثي
محمود البرغوثي

حسناً فعلتها الحكومة الروسية بقرار رفع الرسم على صادراتها من القمح والذرة والشعير، بما يمكن أن نعتبره صافرة إنذار لحكومتنا المصرية التى تصر على مقارنة القمح المحلى بالمستورد مالياً، دون الوضع فى الاعتبار عاملى الجودة، والبعد الاجتماعى، والأخير من شأنه ترسيخ الفلاح المصرى فى أرضه، ومساندة استمراره كمنتِج للغذاء، و«مانح للحياة» من الله.

«مانح الحياة» ترجمة موازية لمصطلح إنجليزى «Life giver»، ابتكرته لجنة التنمية المستدامة فى الأمم المتحدة عام 2008، ووصفت به الفلاح، كونه زارع الخضار الذى يكافح التصحر ويرفع معدل انبعاثات الأكسجين ضد ثانى أكسيد الكربون، رافع الاحتباس الحرارى، المسبب للتغيرات المناخية.

حكوماتنا المتعاقبة منذ ما يزيد على 20 عاماً، استمرأت حساب سعر تسلّم القمح المحلى (أجود أنواع الحبوب عالمياً)، من مزارعينا بالقيمة ذاتها التى تشترى بها القمح المستورد الردىء، أو أعلى قليلاً، من باب ذر الرماد فى عيون المهتمين بهذا الملف المُعْجِز المريب.

مصر تستورد نحو 13 مليون طن قمح سنوياً، بنحو 3 مليارات دولار (نحو 47 مليار جنيه)، نسبة القمح الروسى منها تتراوح ما بين 49 و70%، فإذا اعتمدنا متوسط العامين الماضيين، سنجد أن مصر تستورد من روسيا سنوياً نحو 60% من حجم وارداتها من القمح، أى نحو 7.8 مليون طن، تقدر زيادتها فى موسم التوريد المقبل بنحو 390 مليون يورو (نحو 7.3 مليار جنيه)، نقدمها دعماً سائغاً للفلاح الروسى.

وبحساب سعر طن القمح الروسى بعد رسم الصادر الجديد، سيصل سعر الطن إلى نحو 240 يورو على الأقل (290 دولاراً)، أى نحو 5000 جنيه مصرى، مقابل 4500 جنيه تدفعها الحكومة المصرية لطن القمح المحلى، مع فارق الجودة للثانى.

القمح ليس منفرداً فى الظرف الراهن، لكن القرار طال الذرة التى تستورد مصر منها نحو 9 ملايين طن، بنحو 1.7 مليار دولار، أى بنحو 26 مليار جنيه، فى الوقت الذى أحجم فيه المزارع المصرى عن زراعة هذا المحصول، بسبب عدم شرائه من مربى الدواجن المحليين، وأيضاً لعدم دعم إنتاجه، وتجفيفه لصالح صناعة الأعلاف الداجنة والحيوانية والسمكية.

وبحساب زيادة رسم الصادر على الذرة الروسية بمبلغ 25 يورو للطن، لم تبدُ أى تأثيرات سلبية على واردات مصر من هذه السلعة، كون روسيا لا تظهر على منحنى الدول المصدرة للذرة إلى مصر (أقل من 50 ألف طن)، وبالتالى لا تمثل الزيادة السعرية فيها عقبة فى الميزان التجارى المصرى، ولا تعين ميزان زراعة الذرة الشامية فى مصر.

أقل ما يمكن قوله فى هذا الخصوص، إن وزارة التموين المصرية تصر على دعم الفلاح الأجنبى وتشجيعه على إغراق مصر بأقماحه الصلبة الرديئة، بينما لا يجد الفلاح المصرى سوى جرش محصوله علفاً للماشية، لأنه أكثر نفعاً وأعلى جدوى، خاصة مع وصول سعر طن العلف المُصنّع حالياً إلى 8000 جنيه.

المحصلة:

وبمسح ما تناولته الصحف حول ردود فعل المسئولين عن هذا الملف، تجاه هذه القضية، لم تظهر سوى حلول نظرية تفتقد الواقعية، وتفتقر إلى آليات تنفيذ ملموسة، حيث ركز معظمها على: خفض كميات القمح المستورد من روسيا، أو زراعة القمح فى السودان شماله وجنوبه وبعض دول حوض النيل الأخرى، لتعيد إلى الأذهان المثل الشعبى «يا زارع فى غير أرضك.. يا مربّى فى غير ولدك».

والتفكير خارج الصندوق هنا ليس مجدياً، لأن الصناديق التقليدية مليئة بالأفكار البكر، التى جافتها أيدى المنظّرين المصريين، وفيها هذه المقترحات:

- تخفيض كمية استيراد القمح الروسى بنحو 2 مليون طن فقط، قيمتها نحو مليار جنيه مصر، يمكن توجيهها، لإنشاء نحو 65 صومعة عملاقة جديدة (سعة 5000 طن) فى مواقع إنتاج القمح، وبالتالى رفع القدرة التخزينية لهيئة السلع التموينية، ومعها تسلّم مليونى طن قمح إضافية من الفلاحين المصريين، شرط رفع سعره إلى 5000 جنيه للطن (نحو 770 جنيهاً للأردب)، مساوياً للقمح المستورد الردىء.

- الاستغناء عن استيراد حصة روسيا من الذرة المصدّرة إلى مصر، وهى نحو 50 ألف طن (250 مليون جنيه)، بحيث يتم توجيهها مباشرة إلى دعم سعر الذرة المحلية، والإعلان عن السعر التشجيعى مبكراً، وهو مضمون دستورياً، حتى تتحول بوصلة المزارعين إلى زراعتها بدلاً من الأرز.

- إلزام شركات اتحاد منتجى الدواجن بتنفيذ الزراعة التعاقدية للذرة مع الفلاحين المصريين، كشرط لبيع دواجنها لصالح وزارة التموين، وجهاز مشروعات الخدمة الوطنية، ومنافذ أمان الخاصة بوزارة الداخلية، مع ضمان تنفيذ قرار اللجنة 222 لسنة 2019، والمشكّلة بقرار مجلس الوزراء، بناء على توجيهات رئيس الجمهورية، بمنع استيراد الدواجن أو مجزَّآتها قبل العرض على اللجنة لدراسة مدى الاحتياج من عدمه.

- إلزام مزارعى الصحراء فى الأراضى ذات القابلية لزراعة القمح، بتخصيص نسبة من المساحة لزراعة محصولنا الاستراتيجى، وذلك للتوسع الأفقى فى إنتاجه بعيداً عن المساحات التى تخصص لمحاصيل الفول والبنجر والبرسيم، وهى ميزة تضاف إلى ميزة الإنتاجية المرتفعة التى حققتها الأصناف الجديدة من مركز البحوث الزراعية.

- إدخال نسبة من دقيق الذرة إلى الرغيف المدعم (275 مليون رغيف يومياً)، مع زيادة نسبة القمح المصرى للرغيف، ومع الاستهلاك اليومى للخبز المدعم، واتجاه معظم المستهلكين لحفظه فى الثلاجات، فلن يُخشى على صلاحية الرغيف من الأثر السلبى لزيت جنين بذرة الذرة من حيث الأعفان والتزنخ.