الثلاثاء 19 مارس 2024 مـ 05:17 صـ 9 رمضان 1445 هـ
موقع الأرض
رئيس مجلس الإدارةخالد سيفرئيس التحريرمحمود البرغوثيالمدير العاممحمد صبحي

تاريخ تدمير التربة المصرية عمدا

بالغ المصريون في وصف من ترك أرضه للبوار بأوصاف تربط بين "التفريط في الأرض والتفريط في العرض"، لكن أحدًا لم يتفرغ لرصد بدايات تنفيذ المخطط الإجرامي لتدمير ملف الزراعة المصرية عامة، بداية من جمع معلومات كل شبر زراعي فيها، ونهاية ببيع شركة "نوباسيد" لإنتاج البذور، وما بين الجريمتين شطب ميزانيات البحث العلمي، وإهمال مشاريع الصرف الزراعي، لينته الأمر بهزال الأرض وإفقار زارعها.

- جمع البيانات والمعلومات عن التربة الزراعية المصرية، تم في غفلة من مسؤولينا الزراعيين، حيث حدث وسط زحام المنح والمشاريع الأجنبية، بالطريقة التي أشار إليها القرصان الأمريكي "جون بركنز" في كتابه الشهير "الإغراق الاقتصادي للأمم.. اعترافات قرصان أمريكي تائب"، وكان الهدف المعلن من هذه المشاريع: تحديد احتياجات التربة، وفقا لطبيعتها الفيزيقية والكيميائية، لكن تبين بعد مرور الزمن أن الهدف الحقيقي كان التعرف على أسرارها وسبر أغوارها لأهداف تخص المانحين شكلا، والطامعين موضوعا، وبعد نحو 33 عاما أصبح مشروع الصرف المغطى كمثال، "عاهة مستعصية في باطن عجوز، أعياها الإنجاب المتكرر"، وأصبحت آفة "النيماتودا" المدمرة كائنا من ضمن مكونات التربة الزراعية المصرية.

- والصرف الزراعي لمن لا يعرف، مثل الجهاز البولي للإنسان، وإهماله تسبب فعلا في احتباس ماء الري في التربة، ما أدى إلى تراجع الأوكسجين، ومعه موت الأحياء الدقيقة النافعة، ثم تراكم الأملاح، وبالتالي هدم مكوناتها الطبيعية وتصحرها بالمفهوم العلمي للتصحّر.

- أما بيع "نوباسيد" فلم يكن حلقة عادية ضمن مسلسل بيع ممتلكات القطاع العام، لكن الواضح أنه تم تخريبها أولا بعد أن نجحت في إنتاج نحو 60٪ من بذور تقاوي الخضر في مصر، فصدر القرار الغريب باقتطاعها من وزارة الزراعة، وتحويلها إلى وزارة قطاع الأعمال، حيث كان السيناريو قد تم إعداده للتصفية كمصنع إنتاج تقاو، وليس كأرض زراعية.

كان الدكتور عاطف عبيد قد عاد من السعودية بعد عمله في معهد الإدارة في العاصمة الرياض، وهي فترة العمل التي نسجت له علاقات، رد بها الجميل لرجل أعمال سعودي، باعه أرض الشركة التي أنشئت لغرض استراتيجي، لا يقل عن استراتيجية صناعة السلاح، وذلك تحت راية وزارة الزراعة، لتقع أكبر دولة منتجة للزراعة في الشرق الأوسط تحت رحمة كيانات أجنبية تقود ملفها الزراعي على هواها، وليس على ما يريده باحثوها ومزارعوها.

- آنذاك، وحين تبين الدكتور يوسف والي أن النوايا معقودة على بيع الشركة، طلب من الرئيس الأسبق حسني مبارك أن تشتريها الوزارة بأعلى تقييم سعري تصل إليه، لكن عبيد كان قد أنهى كتابة العقود والشروط لبيع الأرض لرجل الأعمال السعودي عبد الإله الكحكي، وبشراكة مصرية لرجل عاد إلى البرلمان على فرس المال السياسي.

- وبفتح ملف ميزانيات البحث العلمي، يكفي أن يطلب صانع القرار في مصر، رئيس مركز البحوث الزراعية الحالي، لمناقشته في الموازنة العامة الموجهة للبحوث العلمية في المركز، منذ أكثر من ستة أعوام، أي منذ أن تبرّع أحد الوزراء السابقين للوزارة المكلومة باقتراح يفيد بأن تعيش على حسابها، وكأنها شابة تخرجت من عِصمة أبيها ووجب أن تعتمد على نفسها في تدبير نفقات معيشتها وبناء مستقبلها، فانقطع المدد نهائيا عن "الزراعة"، لنقرأ عن خفض ميزانية مركز البحوث من 2 مليار جنيه في عهد المرحوم المظلوم يوسف والي، إلى 3 ملايين جنيه فقط خلال أعوام 17، و18، و19، قبل أن تعود للارتفاع إلى 136 مليون جنيه عام 2020، لتظل غير كافية لسداد فواتير كهرباء وغاز المعامل البحثية في معاهد ووحدات ومحطات المركز.

- المتبرعون بالاقتراحات المسمومة لولي الأمر، زينوا أفكارهم القاصرة بدعوى أن مركز البحوث الزراعية، ومثيله مركز بحوث الصحراء، ما هما إلا تجمعان مريضان لكيانات وظيفية ثقيلة الحمل على كاهل الدولة المصرية، وأن لديهما وحدات ذات طابع خاص تُدِر أموالا، يجب أن تغطي نفقات البحث العلمي، وهم لا يعلمون قطعا أن روشتة علاج عيب واحد من عيوب التربة يتطلب مليارات، وأن تربية صنف نباتي (حبوب أو خضر أو فاكهة)، قد يتطلب عشرة أعوام وعشرات الملايين سنويا، لتظل التربة مريضة، وبرامج إنتاج التقاوي "حبر على ورق"، واجتهادات فردية لباحثين يدعمهم القطاع الخاص.

- ومن الحب ما قتل، مثل صحيح 100 في المئة، وهو ينطبق حاليا على المشروع القومي لتبطين القنوات المائية في مصر، خاصة الترع، التي رصد له الرئيس السيسي عشرات المليارات، بهدف منع تكاثر الحشائش التي تسد مجاريها، وترفع نسبة الفقد بالبخر، وكان من الأولى توجيه هذه المليارات لصيانة التربة من شيخوخة الصرف، خاصة أن عري ضفاف الترع يفيد في تسريب جزء من مياهها إلى الخزان الجوفي، وهي ميزة إيجابية لتعويضه.

- وملف التقاوي ليس بمنأى عن تدمير المهد الصالح لإنباتها، حيث تم تهريب بذور معدلة وراثيا، وغيرها مصابة بجراثيم سامة على مدار العقدين الأخيرين، تسببت في إصابة التربة بالعديد من الأمراض المنقولة، ومنها المسرطنة، كما ظهرت أخيرا بذور خضر معيبة تُنتِج مجموعا خضريا، ولا تزهر ولا تثمر، وقد تكون مجرد وسيلة لنشر أمراض تهدد الصحة النباتية.

- الغريب في أمر ملف البذور، تلك المبادرة التي أطلقها رئيس الجمهورية لتنفيذ برنامج وطني لإنتاج تقاوي الخضر، وتجاوب مركز البحوث الزراعية مع المبادرة الرئاسية التي استهدفت توفير نحو ملياري دولار سنويا لخزينة الدولة، تستورد بها مصر تقاو أجنبية، وفجأة يصل البرنامج إلى طريق مسدودة بحجج تتنافى مع تصريحات المسؤولين عنه.

- هذا البرنامج قدمه عالم مصري ملخص في دراسة بآليات تنفيذ حقيقية إلى رئيس مركز البحوث، وإلى وزير الزراعة، بعد أن وعده الأخير في اجتماع مشهود بتوفير الميزانية والإمكانيات المطلوبة، وكان من ضمن بنود الدراسة: تخصيص محطة بحثية متكاملة في النوبارية لتكون مدينة إنتاج بذور مصرية، وتوفير نحو 20٪ من احتياجاتنا المحلية خلال الأعوام الثلاثة الأولى، مع الاستمرار في خطة الاكتفاء الذاتي والتصدير، لكن الحلم تم إجهاضه بفعل فاعل مجهول للجميع.

- الأمل المنشود: أن يصل صانع القرار ذات يوم إلى الفاعل المجهول الذي بدا أنه يزين وجه الحياة بخيال واسع، لكنه يحقن السم في العسل بإمعان شديد.