نجاح تبييض الأرز البسمتي يمهد الطريق للتصدير

قال الدكتور مجاهد حلمي، وكيل معهد بحوث المحاصيل الحقلية، على مدار أكثر من عقدين، ظلت مصر تعتمد بشكل شبه كلي على استيراد الأرز البسمتي من الخارج، لتلبية احتياجات الفنادق الراقية والجاليات العربية المقيمة، ما تسبب في استنزاف مئات الملايين من الدولارات سنويًا، لكن المشهد بدأ يتغير تدريجيًا، مع انطلاق جهود علمية وطنية قادها مركز البحوث الزراعية، بهدف استنباط أصناف بسمتي مصرية تجمع بين الجودة العالمية والتأقلم مع الظروف المناخية المحلية.
بداية الحلم... من الهند إلى حقول الدلتا
يعود أصل الفكرة، بحسب الدكتور مجاهد حلمي، إلى نحو 15 أو 20 عامًا، عندما لاحظت الدولة تنامي الاعتماد على الأرز البسمتي المستورد. ومن هنا بدأ التفكير جديًا في تقليص فاتورة الواردات، عبر تطوير أصناف محلية قادرة على سد فجوة الاستهلاك، دون الإخلال بالمواصفات التي يطلبها السوق.
وكانت البداية بصنف "ياسمين المصري"، المستنبط من صنف هندي الأصل. تلاه تطوير أصناف أطول حبة وأقرب للذوق المصري، إلى أن تم في عام 2018 استنباط "جيزة 201"، كأول صنف بسمتي مصري خالص، يليه "هجين بسمتي 11"، ثم الصنف الأحدث "هجين أرز بسمتي عالي الإنتاجية"، الذي يتميز بعطره الفوّاح وجودته العالية.
تحولات الحاضر.. من التجريب إلى التوسع
لم تكن التجربة سهلة، فقد اصطدمت بواقع صعب يتمثل في غياب المضارب المتخصصة للتعامل مع الأرز طويل الحبة. فالمضارب التقليدية تؤدي إلى تكسير الحبوب وفقدان جزء كبير من المحصول. لكن الحل بدأ يتبلور، مع توجه المعهد لعقد بروتوكولات تعاون مع شركات خاصة لإنشاء مضارب حديثة مخصصة للبسمتي.
ولم يكن هذا التقدم نظريًا فقط، بل تجسّد على أرض الواقع من خلال التجارب الناجحة في حقول مركز طنطا، خاصة في منطقة بوريك، والتي أظهرت نتائج مبهرة على مستوى الإنتاجية والجودة.
ويشير الدكتور حمدي الموافي، رئيس المشروع القومي لتطوير إنتاجية الأرز، إلى أن زراعة 100 ألف فدان فقط من هذه الأصناف كفيلة بتحقيق الاكتفاء الذاتي من الأرز البسمتي، بإنتاج يصل إلى نصف مليون طن سنويًا، يغطي الاحتياجات المحلية ويفتح الباب أمام التصدير.
تجربة التبييض... بداية تقليل الاستيراد
واحدة من أهم التجارب الميدانية الناجحة، كانت عملية تبييض الأرز البسمتي بالتعاون مع مضرب خاص في منطقة محلة منوف بالغربية، والتي سجلت نسبة تبييض وصلت إلى 70%، وهي نسبة مثالية للمستهلك المحلي وقابلة للتسويق خارجيًا. وهو ما يمثل خطوة مهمة على طريق تقليل واردات الأرز البسمتي، التي تتراوح سنويًا بين 200 إلى 300 مليون دولار.
مزايا استراتيجية.. أقل استهلاكًا للمياه وأعلى إنتاجية
من أبرز مزايا الأصناف الجديدة، إلى جانب الطول والرائحة، أنها تستهلك كميات أقل من المياه، إذ تحتاج فقط إلى 2000 متر مكعب للفدان، مقارنة بـ4500 متر مكعب في الأصناف التقليدية. كما يبلغ متوسط إنتاجية الفدان نحو 5 أطنان، ما يمنح المزارع والمستثمر فرصة لتحقيق عائد اقتصادي مرتفع في ظل التحديات المناخية الحالية.
نظرة نحو المستقبل.. استثمار واعد وفرص تصديرية
رغم التحديات، فإن الاستثمار في زراعة الأرز البسمتي المصري يمثل فرصة ذهبية للاقتصاد الوطني. فنجاح هذه الأصناف على الأرض، وتوفير البنية التحتية اللازمة من مضارب ومعدات، يفتح آفاقًا رحبة للتوسع في الزراعة، ويمنح المواطن البسيط فرصة الحصول على منتج عالي الجودة بسعر مناسب، بعد أن ظل الأرز البسمتي حكرًا على القادرين لسنوات، بسعر تجاوز 100 جنيه للكيس الواحد.
ثلاثة أصناف مصرية تكتب فصلاً جديدًا في الزراعة
حاليًا، تمتلك مصر ثلاث أصناف معتمدة من الأرز البسمتي، جميعها نتاج أبحاث محلية دقيقة:
جيزة 201
هجين بسمتي 11
هجين بسمتي عالي الإنتاجية
وكلها أصناف طويلة الحبة، ذات رائحة عطرية ومذاق مميز، تنافس نظيراتها المستوردة، بل وتتفوّق عليها في بعض الخصائص الزراعية والبيئية.
خاتمة: من التبعية إلى الريادة الزراعية
ما بدأ كمحاولة لتقليل الاستيراد، تحوّل اليوم إلى مشروع وطني طموح يهدف لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الأرز البسمتي. وإذا استمر الدعم الحكومي وتعاون القطاع الخاص، فإن السنوات المقبلة قد تشهد انطلاقة غير مسبوقة لهذا المحصول الاستراتيجي، ليصبح الأرز البسمتي المصري عنوانًا للجودة والتوفير في آن واحد.