المعمل يحسم الجدل: كيف نكشف العسل المغشوش؟

بين طنين الأجنحة ورحيق الأزهار، تنسج مصر قصة نجاح مذهلة تُروى على ألسنة النحل. خلف كل قطرة عسل تزين موائدنا، تقف منظومة دقيقة من العمل الجماعي، يبدأ داخل خلية متناهية الدقة، وينتهي في مصانع تعبئة على أعلى مستوى من الجودة. هي ليست مجرد صناعة، بل حكاية حياة تبدأ من الطبيعة وتخدم الاقتصاد.
ولادة في قلب الشمع
في عمق الخلية، حيث الدفء والهدوء، تنبض دورة الحياة. تفقس البيوض لتخرج منها يرقات بيضاء تشبه الديدان الصغيرة، فتجد موطنها داخل خلايا شمعية سداسية صممت بإتقان هندسي لا يخلو من الإعجاز، توفر الحماية والغذاء والاستقرار الحراري.
وسط هذا النظام، تقف الملكة باعتبارها المحور الأساسي للطائفة، فهي الأنثى الوحيدة القادرة على وضع البيض. من خلال فرمون خاص، تنشر رائحتها في الخلية، مانحة النحل العامل التوجيه اللازم لبقاء الطائفة متماسكة.
مع إشراقة الشمس.. تبدأ المهمة
مع كل فجر، تنطلق العاملات ككتيبة من المخلوقات الذهبية، تُحلّق فوق الحقول والأزهار، باحثة عن الرحيق الذي تخزنه في "معدة العسل" المخصصة، منفصلة تمامًا عن المعدة العادية. بعناية، تمتص النحلات هذا السائل الثمين استعدادًا لتحويله لاحقًا إلى عسل نقي.
الحصاد.. فن ومهارة
في لحظة الحصاد، يبدأ التعاون بين الإنسان والنحل. بحذر، يستخدم النحال أدوات يدوية ناعمة لفصل الإطارات المليئة بالرحيق من داخل الخلية دون إزعاج النحل. يتم تفريغ الخلايا في صناديق مرتبة، ثم تُجهز للشحن نحو مصانع المعالجة، وسط التزام صارم بإجراءات الأمان ولباس الحماية، والدخان الذي يُستخدم لتهدئة النحل أثناء العمل.
من الخلية إلى المصنع.. رحلة تنقية الذهب السائل
في داخل المصنع، تبدأ الماكينات أولى مراحل الاستخلاص عبر إزالة الطبقة الخارجية من أقراص العسل، تمهيدًا لاستخراجه. بعدها، تُوضع الأقراص في أجهزة طرد مركزي تدور بسرعات عالية، لإخراج كل قطرة من العسل دون أن تُتلف البنية الشمعية. ثم يُصفى العسل بمناخل دقيقة لإزالة الشوائب من شمع وأجنحة ومخلفات نباتية.
يُخزن العسل بعدها في خزانات ضخمة، ويُدفأ إلى درجة حرارة تتراوح بين 40 و45 درجة مئوية لتقليل الرطوبة، ثم يُعبأ أوتوماتيكيًا في برطمانات بعد مروره بمراحل دقيقة من الفلترة تصل إلى 200 ميكرون.
الذهب المصري.. معايير عالمية وجودة لا تُضاهى
يؤكد الدكتور فتحي بحيري، رئيس اتحاد النحالين العرب، أن العسل المصري يخضع لتحاليل صارمة داخل معامل معتمدة دوليًا، لضمان مطابقته للمواصفات القياسية. ويشير إلى أن العسل الطبيعي لا يقبل أي إضافات، وأي عنصر دخيل يُفسده تمامًا، ما يجعل الرقابة أمراً حيويًا.
وأوضح أن كل طن من العسل يتم تحليله قبل تعبئته للتصدير، مشيرًا إلى التزام الدولة بتطبيق اشتراطات هيئة سلامة الغذاء والسوق الأوروبي، مما يضمن مكانة مرموقة للعسل المصري عالميًا.
صناعة عائلية تدعم الاقتصاد
قطاع تربية النحل في مصر ليس مجرد حرفة، بل إرث عائلي يشمل أكثر من 25 ألف أسرة، يُشكل مصدر دخل رئيسي خصوصًا في الريف وصعيد مصر. يقول بحيري: "النحالون يتوارثون هذه المهنة جيلًا بعد جيل، وفي كثير من الأحيان تكون المرأة المصرية شريكًا أصيلًا في هذا العمل، كما حدث معي شخصيًا، حيث تعلمت المهنة من والدتي."
عسل التصدير.. من مصر إلى العالم
مصر تصدر سنويًا بين 2800 و3000 طن عسل إلى دول منها الولايات المتحدة واليابان ودول الخليج، إضافة إلى تصدير أكثر من مليون طرد نحل حي سنويًا. ويشير بحيري إلى أن مشروع "النهوض بمنتجات نحل العسل المصري" يستهدف مضاعفة الإنتاج وزيادة العائد، الذي يصل حاليًا إلى 300 مليون دولار سنويًا.
العسل المغشوش.. الخطر الصامت
تؤكد الدكتورة أسماء أنور، رئيس قسم بحوث النحل بمعهد وقاية النباتات، أن الكشف عن غش العسل لا يتم بالحواس أو الطرق التقليدية، بل يحتاج إلى فحوصات مخبرية دقيقة. وتحذر من أن العسل المغشوش الذي يُخلط بالجلوكوز أو النشا يفقد قيمته الغذائية ويؤثر على صحة المستهلك.
وشددت على أن معمل تحليل الأعسال التابع للمعهد حاصل على شهادة الجودة الدولية "ISO 17025"، ويجري تحاليل دقيقة لجميع الأعسال المخصصة للسوقين المحلي والدولي.
مشروع بسيط.. بعائد كبير
يرى الخبراء أن مشروع تربية النحل يُعد فرصة ذهبية للشباب، إذ يمكن تنفيذه بتكلفة بسيطة وعلى مساحات صغيرة، حتى فوق أسطح المنازل، بشرط التدريب الجيد. ويوفر قسم بحوث النحل دورات متخصصة للراغبين في دخول هذا المجال الواعد.
النحل.. حارس الأمن الغذائي
ليس إنتاج العسل هو الفائدة الوحيدة للنحل، بل له دور بيئي حاسم. فالنحل مسؤول عن تلقيح نحو 37% من المحاصيل الزراعية، ويسهم في زيادة الإنتاج بنسبة 7%، كما يساهم في مكافحة التصحر ودعم الأمن الغذائي العالمي. وتُظهر الدراسات أنه في حال اختفائه، قد يواجه العالم أزمة بقاء.