الخميس 28 مارس 2024 مـ 11:11 مـ 18 رمضان 1445 هـ
موقع الأرض
رئيس مجلس الإدارةخالد سيفرئيس التحريرمحمود البرغوثيالمدير العاممحمد صبحي

مستشفى خيري يصارع تجار خامات أعلاف الدواجن

فرق كبير بين أن تتاجر مع الله، وأن تتاجر في حاجة الناس، استغلالا للشُح والعوز، كأثرياء الأزمات والحروب، وأصعبها وأحدثها حرب الذرة الصفراء والصويا التي ساهمت في هدم الكثير من معاقل صناعة الدواجن على أيدي بعض تجار الخامات الذين حققوا المليارات، على حساب منتجي الدجاجة والبيضة (الغذاء الأكثر أهمية للمصريين).

مؤلم جدا أن يطلبك مدير عام مؤسسة خيرية لينبؤك باختفاء خامات أعلاف صناعة الدواجن، ومعظم خامات مستلزمات الإنتاج الزراعي (أسمدة ومبيدات)، لتغذية دواجن وأشجار تنفق على علاج ورعاية نحو 40 ألف مريض شهريا، وتفتح باب العمل لنحو 1300 موظف رسمي، يعاونهم ضعفهم من أصحاب الوظائف الموسمية والعمالة اليومية المرتبطة.

الاستثمار في الخير له أوجه كثيرة، منها: الجعجعة بهدف "التصوير" وصنع البرواز الذي تجرفه رياح النسيان عند أقرب هوجة، حتى لو من خلال جمعيات أهلية خيرية شكلية، تستهدف التضليل على مصلحة الضرائب، تُستخدم قواعد بياناتها فقط في مواسم الانتخابات، أو المحاسبة الضريبية، ومن أوجه الخير أيضا ما يفرض الصمت المطبق على أعماله الحقيقية، مع الرفض البات والتام لأي ضوء إعلامي، أو قبول التبرع من الغير بمليم واحد، "ما دام ريع الوقف الخيري يربو بسيرة مؤسسيه وخيرات واقفيه".

قصة الثنائي صلاح عطية وعبد السلام حجازي، تُدَرَّس، ويتناقلها الأجيال، بالزيادة الحميدة والتجويد الذي لا غبار عليه، لكن أساس الشراكة منذ أكثر من 40 عاما، يعرفه القاصي والداني، وتسجله جنازة للفقيد صلاح عطية دخلت قائمة الجنائز التاريخية بنحو مليون مشيع (في 11 يناير 2016)، حيث اتفقا على العمل لوجه الله حقا، ولم ينقضا العهد أمام الله الذي لا شريك له في الملك، ولا في الرزق، ولا في الخلق.

أساس الشراكة الخيرية بني على تخصيص جزء كبير من ريع عملهما التجاري التنموي المشترك لصالح الخير، أي لله، ولم يقف الأمر عند هذا التخصيص، بل امتد الأمر للمتابعة بتوزيع الريع الخيري في مصارفه الإنسانية، بينما أخلصا سويا في الاستثمار الأمثل في التنمية البشرية وإعداد العامل والفني والمهندس الزراعي، إعدادا يتفق مع الفكر الإنتاجي من أجل سد الفجوة الغذائية في مصر، وذلك قبل أن يتحولا إلى ثنائي خيري، يتباريان في مضمار السباق إلى الله، ويتنافسان في سرعة أنجاز الهدف.

السبب الرئيسي لفتح صفحة من صفحات المرحوم صلاح عطية هنا، هو البحث الدؤوب في مخازن تجار خامات الأعلاف عن ما يسد رمق أمهات التسمين والبيَّاض، لإنتاج الكتكوت والبيضة والدجاجة، التي تنفق في النهاية على مستشفى البدر الخيرية التي يتردد عليها نحو 40 ألف مريض شهريا، سواء على العناية المركزة، أو الاستقبال أو غرف العمليات، لتلقي العلاج، وعمل الجراحات، والحصول على العلاج بأسعار رمزية كمشاركة في استمرار فتح أبواب الأمل في وجوه المرضى.

تحفل صفحات مصر بقائمة للجنائز التاريخية، دخلتها عن جدارة جنازة صلاح عطية، المهندس الزراعي الذي تاجر مع الله، فترك مؤسسة تنفق على نحو 40 ألف مريض شهريا، يترددون على مستشفى البدر في قرية مصرية صغيرة، اسمها "تفاهنا الأشراف"، وتتبع مركز ميت غمر ـ بمحافظة الدقهلية، ويعمل في مؤسسته الزراعية والإنتاجية (دواجن وبيض مائدة)، نحو 1260 موظفا، تم تدريبهم وتنشئتهم على ترسيخ العمل للغير قبل النفس.

قائمة الجنائز التاريخية في ذاكرة المصريين، تحفل: بجنائز: الزعيم جمال عبد الناصر (28 سبتمبر 1970 ـ 4 ملايين مشيع)، ثم السيدة أم كلثوم (3 فبراير 1975 ـ 4 ملايين مشيع)، ثم الشيخ محمد متولي شعراوي (18 يوليو عام 1998 ـ مليون مشيع)، وأخيرا شاهبندر التجار الحاج محمود العربي (10 سبتمبر 2021)، وهي قائمة تحظى بشخصيات مصرية، مزدوجة أو متعددة الأوجه، ليس بالمعنى الدارج السلبي لمعنى الازدواجية، ولكن بالمعنى الحقيقي المراد به تعدد المنافع.

فبينما كان الشيخ محمد متولي شعراوي رجل دين ودعوة، اهتم بشراء أرض صحراوية (على طريق القاهرة ـ الإسكندرية الصحرواي، حولها من رمال صفراء إلى واحة تغنى بأشجار الموالح والبرقوق، والنخيل، والزيتون، والنباتات الطبية والعطرية، واشتراها من بعده الدكتور عادل عبد العال ـ يرحمه الله أيضا، الذي اشتغل ردحا من الزمن بالطب البديل.

أما السيدة أم كلثوم، فقد نشأت لأب ريفي وفي قرى محافظة الشرقية، وقطعت الكثير من مشاويرها الفنية بحثا عن دعم مصر في أزماتها الاقتصادية، وحربها بعد النكسة، وأثناء حرب الاستنزاف، لتقيم الحفلات دعما للوطنية المصرية، وقد حظيت بجنازة مليونية ودَّعت جثمانها إلى مثواه الأخير.

محمود العربى مؤسس مجموعة شركات توشيبا العربى في مصر داخل مكتبه

كما اهتم شاهبندر التجار محمود العربي بالزراعة، من خلال شراء الأراضي في قريته "أبو رقبة" مركز أشمون ـ منوفية، كما بنى مستشفى نموذجي متطور في قريته، وردم أمام مبناها ووسط قريته مصرفا بطول يزيد على 1000 متر، وأنشأ المشاتل، ومزارع إنتاج الماشية، وجعل الكثير منها على هيئة أوقاف خيرية غير موقوفة، بمعنى أنها كانت تدار في حياته، وبعد مماته بمشاركة العاملين فيها من مزارعين ومربين ومنتجين، وكان عدد العاملين في الزراعة يمثل نسبة كبيرة من المليون مشيع الذين ودعوا جثمانه.

أما صاحب المليونية الأولى، وهو الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، فقد سجل التاريخ المصري ما سجله له من "إصلاح زراعي"، وتمليك المزارعين أراض مصرية، ثم أخذ على عاتقه حلا وعلاجا لمشكلة قصر القامة عند الأطفال المصريين بسبب نقص البروتين، فأنشأ المؤسستين سالفتي الذكر، لإنتاج الدواجن والبيض واللحوم الحمراء، بأياد مصرية، ولم يكن غذاءها سوى ناتجا من خيرات مصر، قبل ثورة العلم في صناعة الدواجن واللحوم، واحتياجها إلى هذه الكميات الهائلة من الذرة والصويا، في وقت تعجز فيه المساحة المصرية والمياه المتاحة عن إنتاجها، ولذا لزم الاستيراد، الذي نمت على ريعه طفيليات كثيرة من أثرياء الأزمات.

ومن الغريب أن تتوقف صفحات الجنائز التاريخية في عهد محتكري خامات الأعلاف، فيتساقط أصحاب الثروات المليارية، دون أن يذكرهم غير أهليهم، كونهم تكالبوا على احتكار الخيرات، واستغلال أزمات البشر، لمضاعفة أسعار ما يشترونه بالجنيه، فيبيعونه بمائة، دونما حساب لضمير أو دين أو أخلاق.

يكفي أن ندلل على قصة جشع تجار اليوم، باتصال تم بين مدير مؤسسة صلاح عطية للأعمال الخيرية وأحد أكبر تجار خامات الأعلاف، طالبا شراء حصة من الذرة الصفراء لزوم أعلاف دواجن المؤسسة التي تنفق على مرضى وطلاب علم، فيعلن التاجر المحتكر أن سعر الذرة ارتفع مرة واحدة من 12500 جنيه للطن إلى 13250 جنيها، بعد خضم قدره 50 جنيها للطن، لأنها مؤسسة خيرية، وذلك قبل أن تسارع شركات كبرى عشية الأمس بإعلان سعر جديد قوامه 13500 جنيه لطن الذرة، وتبرير هذا الارتفاع الجنوني جاء من باب أن الدولة أوقفت الإفراج عن الذرة الصفراء والصويا في الموانئ، وأن سعر الدولار يتم تقييمه تجاريا حاليا في السوق ما بين 35 و40 جنيها، لكنهم ـ أي المبالغين، موعودون بما تعهد به عصر أمس الدكتور مصطفى مدبولي رئيس مجلس الوزراء، بأن الدولة ستتدخل لوقف هذه المزايدات على غذاء المصريين، في ظل الأزمة التي يمر بها العالم أجمع، وليس مصر وحدها.

الخلاصة: جفت صحف الخيرات في باب رجال الأعمال الوطنيين، بعد أن حفلت برجال دفنت أجسادهم، وبقيت أرصدتهم الحقيقية تخفف آلام المرضى، مثل صلاح عطية، ومحمود العربي، بينما تزكم الأنوف وتخنق الصدور أفعال بعض الأحياء من المحتكرين المتاجرين بجوع البشر على الأرض ذاتها، وتحت سماء الدولة ذاتها التي أرضعت الخير للجميع، فرد بعضهم الجميل آلاف الأضعاف، وبث البعض الآخر في وجهها شرر قلبه وبث فيها نار أطماعه وأحقاده، ليستمر التاريخ ولتتساقط الأوراق الصفراء، لتجرفها الرياح.

...................

* رئيس التحرير