الخميس 28 مارس 2024 مـ 03:50 مـ 18 رمضان 1445 هـ
موقع الأرض
رئيس مجلس الإدارةخالد سيفرئيس التحريرمحمود البرغوثيالمدير العاممحمد صبحي

رأيت ما رأيت في مهرجان نقل ”ملوك مصر”

محمود البرغوثي
محمود البرغوثي

رأيت فيما يرى اليقظ الواعي - من تُشع من مسام جسده حضارة مصر، ومن تشرق من قلبه شموسها القديمة، مشهدا زراعيا ليس مستعارا، بل يعيد نفسه طوعا وحبا، في فُسحة جديدة أخاذة على ضفة من ضفتي "ساحر الغيوم".

استحضرتُ صوت محمد عبد الوهاب، وهو يشدو بكلمات على محمود طه مسترخيا فوق جندوله، يتهادى على أمواج تهدر من أعالي الحبشة جنوبا لتعانق مياه المالح في الشمال، "أين من عينيك هاتيك المجال"؟.

استحضرت صوت أم كلثوم وهي توقظ النائمين بكلمات المصري الحاضر دائما، حافظ إبراهيم في رائعته القلبية: مصر تتحدث عن نفسها، التي أجتزئ منها بيتين فقط دللالتهما الوقتية: وقــف الخلــق ينظـرون جميعا كيف أبني قواعد المجد وحدي وبناة الأهرام في سالف الدهر كفوني الكلام عند التحدي أتُـراني وقـد طويت حياتي في ميراث لم أبلغ اليوم رشدي أمِـن العـدل أنهم يردون الماء صفـوا وأن يُكَّــدر وردي؟ ومع صوتي عبد الوهاب وأم كلثوم، رأيت ملوك الزراعة والخصب والنماء يمخرون عكس مياه النيل من متحف القاهرة حتى منبع مجرى العيون، في طريقهم إلى الفسطاط، كأنهم يقولون نحن هنا.

لم يتعثر أوزوريس "إله الزراعة والخضرة والبعث" المرتبط بفيضان النيل، في خطوة من خطواته على أنغام مسويقى أحفاده، ولم ينظر إلى الخلف بحثا عن إيزيس "رمز الوفاء لزوجها ورمز الفلاحة المصرية والسحر والجمال"، ممسكة بأيدي "سخت" إلهة الحقول، التي رافقت الموكب حاملة فوق رأسها مائدة قرابين عليها البيض والطيور وزهور اللوتس، وفي يدها الأخرى "نبري" إله الحبوب، الذي كان يصدح دون نشاذ بنشيد "القمح الليلة يوم عيده". لم يتخلف عن الموكب العظيم، إله فيضان النيل "حابى" الذي شوهد حاملا مائدة القرابين وبها خيرات الحقل ونهر النيل، وكان حضوره لتذكير أحفاده أنه لن يترك من أراد بالنيل شرا، بعد أن وحد بين دلتانا العليا، وصعيدنا الأعلى.

هؤلاء لم يغيبوا عن مشهد "محمد السعدي" وخالد العناني، لكنهم ظهروا لمن أراد أن يراهم، مستلهما قصتهم الأولى في استنبات أرض مصر بمياه النيل، فنثروا القمح والشعير، واستنبتوا الكتان والبردي الذي وثقوا عليه حضارة، يعجز العالم في فك أسرارها، وتأسرهم فنونها وسحرها حتى اليوم. ومع قوة وخيلاء أحفادهم، وموسيقى أجراس المعابد والكنائس وأصوات المآذن وتداخلها المتجانس، كان آلهة النماء المصريين يبعثون آيات الأرض، " بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا"، وكثير مما ورد في صحائفهم من الفول، والذرة العويجة، الحلبة، السمسم، الخيار، والخس، كما لم ينسوا ـ دون معايرة ـ أغصان التين، العنب، النبق، الجميز، والتمر، والخروع، وحتى الزيتون الذي عرفوه وزرعوه منذ أسرتهم الثامنة عشرة، رغم ندرته.

 

حمل ملوك الفراغنة الذين غابت مومياواتهم عن مشهد "السعدي والعناني"، باقات الزهور وأكاليلها، مثل اللوتس، والأقحوان، وأزهار الغلال الزرقاء، وكذلك النبات المعروف باللفاح، وكانوا يعتبرون ثماره رمزاً للحب، كما لم يبخلوا بالتلويح بنباتات النيل البرية مثل: الكرفس والريزومات التي انتقلت من تحت أرجلهم لتغزو العالم الحديث، للطبخ والطبابة وصناعة العطور والتجميل والصباغة، والزينة، مثل: اللبلاب، والسوسن، وشجرة التربنتين. وعلى باب الفسطاط، انتفض: "حابي" بلا نشاذ أيضا، ملوحا بقرابين خيرات الحقل والنيل، متوعدا من أراد بأسطورته إعاقة قطرة واحد كانت سببا في نماء مصر.