شجرة الجميز.. كنز فرعوني مهدد بالاندثار

قال الدكتور ربيع مصطفى، أستاذ النباتات الطبية والعطرية بمعهد بحوث البساتين، إن الجميز لم تكن مجرد شجرة، بل رمز قدّسها الفراعنة وأطلقوا عليها اسم "شجرة الحياة"، واختاروها لتُزيّن المقابر ويُصنع منها توابيت الملوك، مثل أوزوريس، لما يمتاز به خشبها من مقاومة للماء والعفن.
وأوضح أنه في قلب تراث فلسطين، تحولت إلى رمز الأرض والهوية. فلا تزال تلك العبارة الحاوية بين طيات الحكمة مسموعة: "إن فرّطتم بالجميز، فرّطتم بأرضكم". وسُمّيت قرى مثل "جمزو" المهجرة – تكريمًا لها وارتباطًا بالأرض.
أما في النصوص الدينية، فقد ورد ذكرها في إنجيل لوقا وكذلك في سفر عاموس من التوراة، ما يجعلها شاهدة حية للموروث الروحي والتاريخي للمنطقة.
من قلب مصر إلى عمق العالم... انتشارٌ يتحدى الزمن
يرجح الباحثون أن مصر النوبية أو الشرق الأوسط هو الموطن الأصلي للجميز، من هناك بدأت رحلتها نحو فلسطين والأردن وسوريا واليمن. واليوم، تشهد بقاع مثل غزة، وأرياف صعيد مصر، ولبنان، والسعودية، وأفريقيا (أوغندا، مدغشقر، الكونغو والجزر) حضورها، بل وحتى في غُرب أمريكا، تحديدًا بروكلين.
شجرة الصمود... مقاومة للجفاف ولغة الأمل
وأشار إلى أن شجرة الجميز هي قلب الصحراء النابض. شجرة دائمة الخضرة، تقف بثبات على أراضٍ قاسية، تتحمل الجفاف والتربة الهزيلة، وتُسهم في مكافحة التصحر وحماية التربة من الانجراف. يستطيع ارتفاعها أن يصل إلى 20 مترًا، وتنتشر أفرعها على مدى 6 أمتار. أوراقها سميكة تشبه التوت، وثمارها الصغير شبيه التين، يتلون بالأصفر، أو الأحمر الباهت، أو البني عند النضج. تنضج ثمار الجميز في "سبع بطون" خلال السنة، أبرزها في شهري يوليو وأغسطس، على الرغم من قصر مدة صلاحيتها بعد الجني.
زرعٌ بلا زحام... تكاثر يروي الحاضر
يزرع الجميز غالبًا في عزلة مهيبة، لا تقاومها إلا طريقتان:
بالبذور في الربيع، بعد نقعها يوماً كاملاً ثم إنباتها خلال أسبوعين تقريبًا.
بالعقل التي تُؤخذ شتاءً، يُعالج قبلاً بهرمونات التجذير قبل الزراعة.
ولا يثمر قبل مضي خمس سنوات، لكن عمره الطويل يجعله استثماراً وراثياً وأرضيًا.
ثمرٌ دوائي... فوائد تمتد من المناعة للبشرة
لا تُعتبر ثمار الجميز طعامًا فقط، بل مركبٌ طبي متكامل. تحتوي على كربوهيدرات وبروتينات ودهون مفيدة وألياف وفيتامين ج ومعادن كالكالسيوم والزنك والمغنيسيوم والفوسفور، إلى جانب الفينولات والفلافونويدات كمضادات أكسدة قوية. وقيمتها الطبية مبهرة، فهي:
تعزز المناعة وتعالج فقر الدم وفقدان الشهية
تساهم في خفض معدلات السكر، الكوليسترول، وضغط الدم
تداوي الصدفية والبهاق عبر العصارة اللبنية
تُحسّن الهضم وتطرد الغازات وتعالج التهابات المعدة
مفيدة للنزلات المعوية، والانتفاخ، والإمساك
تُستخدم كمضمضة لعلاج ترهل والتهابات اللثة
تُعالج الجروح الجلدية موضعيًا
تخفف لسعات العقارب والثعابين عند مزج العصارة بالأعشاب
ليس بلا ثمن: تحذيرات تؤخذ بمحمل الجد
رغم جميع فوائدها، فإن الإفراط في تناول ثمار الجميز قد يمثل خطرًا على الحوامل، إذ قد يؤدي إلى الإجهاض، لذا ينبغي توخّي الحذر ومراعاة الإرشادات الطبية.
شجرة الجيل القديم... خطى نحو الزوال
باختفاء الجميز، تخسر الصحاري إرثًا نابضًا بالحياة والتاريخ. يواجه هذا التراث النباتي تهديدات حقيقية بسبب الزحف العمراني والنسيان البيئي، وأسوأ من ذلك، تراجع اهتمام الأجيال الجديدة بزراعتها. لقد وصفها بعض المزارعين بـ"شجرة الجيل القديم" مجازًا، في إشارة إلى أن رواياتها ربما تختفي قريبا.
خاتمة... شجرة لا تحتمل أن تُنسى
شجرة الجميز أكثر من مجرد جذر؛ هي جسر بين العصور، رمز للعنفوان، وعلاجٌ في زمن الصحة. حمايتها الآن ليست رفاهية طبيعية، بل ضرورة بيئية وثقافية، تستدعي صدق الحفظ وصدق الإيمان بأن الأمم تُحفظ بزراعتها، وليس فقط بتاريخها.