الزيوت الغذائية في مصر: من ضغوط الأزمة إلى آفاق الحل

في ظل تصاعد الأزمات العالمية — من النزاع الروسي الأوكراني، واضطرابات الشرق الأوسط، إلى تقلبات المناخ وسلاسل الإمداد المهددة — أصبحت مصر أمام تحدٍ بالغ الحساسية:
كيف تضمن أمنها الغذائي في سوق عالمي متقلّب، وهي تستورد أكثر من 98% من احتياجاتها من الزيوت النباتية؟
لقد كشف الواقع الراهن هشاشة الاعتماد على الخارج، حيث ترتفع الأسعار وتتقلص الإمدادات، وتتعقد خيارات النقل والتخزين. وبينما تشتد الضغوط، تتزايد الحاجة إلى رؤية استراتيجية شاملة تعيد صياغة مستقبل قطاع الزيوت والدهون في مصر.
يأتي هذا التقرير ليس فقط لرصد التحديات، بل لطرح حلول واقعية قابلة للتنفيذ، مستندة إلى أفضل الممارسات الدولية، وتجارب ناجحة في دول مثل ألمانيا والهند وماليزيا وتونس. كما يبرز أهمية ترشيد الاستهلاك، واختيار الزيت المناسب لكل استخدام، والتوسع في إعادة تدوير الزيوت المستهلكة من المنازل، المطاعم، والفنادق، لإنتاج منتجات غير غذائية تحقق قيمة مضافة وتُسهم في تقليل الفاقد وتعزيز الاستدامة.
أهمية الزيوت في الأمن الغذائي
تُعد الزيوت والدهون من الركائز الأساسية في النظام الغذائي اليومي، ليس فقط لدورها في الطهي والتصنيع الغذائي، بل أيضًا لقيمتها التغذوية العالية، ومساهمتها الحيوية في إنتاج الطاقة ونقل الفيتامينات الذائبة في الدهون A-D-E- Kما تُستخدم بشكل واسع في الصناعات الغذائية الكبرى، والمخابز، والمطاعم، والمنازل، مما يجعلها من المواد الاستراتيجية التي لا غنى عنها.
وفي ظل هذا الاعتماد الواسع، فإن أي اضطراب في توافر الزيوت — سواء بسبب الاستيراد أو الأسعار أو الجودة — يمثل تهديدًا مباشرًا لاستقرار سلة الغذاء اليومية للمواطن، ويضع عبئًا إضافيًا على الدولة لتأمين هذه المادة الحيوية بكفاءة واستدامة.
أولًا: التحديات الرئيسية
1. الاعتماد شبه الكلي على الاستيراد
- مصر تستورد حوالي 2 مليون طن سنويًا من الزيوت النباتية، خاصة زيت الصويا، زهرة الشمس، وزيت النخيل ومشتقاته.
- الدول الموردة الرئيسية (أوكرانيا، روسيا، إندونيسيا، الأرجنتين، البرازيل) تواجه تحديات مثل:
- الحروب والنزاعات (مثل تعطل صادرات أوكرانيا).
- تقلبات المناخ (الجفاف في الأرجنتين يؤثر على فول الصويا).
- قيود التصدير (مثل حظر إندونيسيا المؤقت لزيت النخيل، أو التوسع فى إنتاج البيوديزل).
2. ارتفاع التكاليف واضطراب سلاسل الإمداد
- ارتفاع أسعار الشحن والتأمين بنسبة تصل إلى 300% بسبب مخاطر الممرات البحرية (مثل البحر الأحمر بعد أزمة غزة، والحرب الإيرانية مع دولة الإحتلال)
- ضعف الجنيه المصري زاد من تكلفة الاستيراد، مما أدى إلى ارتفاع أسعار الزيوت بأكثر من 60%.
3. سوء إدارة المخزون والاستهلاك
- غياب الرقابة على تخزين وتوزيع الزيوت، مما يؤدي إلى احتكار وارتفاع أسعار غير مبرر.
- الإسراف في الاستخدام، خاصة في المطاعم والفنادق، دون مراعاة معايير السلامة.
4. نقص الوعي بالاستخدام الأمثل للزيوت
- إعادة استخدام الزيوت بشكل خاطئ (مثل القلي المتكرر بدون ضوابط) يؤدي إلى تكوين مركبات مسرطنة (TPM) .
- استخدام أنواع زيوت غير مناسبة للقلي، مثل الزيوت الأقل ثباتًا، بدلًا من زيت الأوليين الأكثر تحمّلًا للحرارة،.
ثانيًا: دروس عالمية ونماذج ناجحة
1. النموذج الأوروبي: تشريعات صارمة لإعادة التدوير
- هيئة EFSA تحدد نسبًا قصوى للمواد الضارة في الزيوت المستعملة (TPM) لا تتجاوز .25%
- إلزام المطاعم بتركيب أجهزة قياس جودة الزيت أثناء القلي.
2. النموذج الألماني: الاقتصاد الدائري للزيوت المستعملة
- تحويل 90% من الزيوت المستهلكة إلى وقود حيوي (الديزل الأخضر) ومنتجات صناعية (شموع، شحوم).
- منع تصدير الزيوت الخام دون معالجة لتعظيم القيمة المضافة محليًا.
3.النموذج الهندي: التوسع في الزراعات الزيتية
- زيادة إنتاج زيت النخيل فى الهند عبر استصلاح الأراضي، مما قلل فاتورة الاستيراد بنسبة 30%.
4. ماليزيا: تُعد من أنجح النماذج العالمية في إنتاج زيت النخيل، بفضل دعم الدولة للبحث الزراعي وتطوير سلاسل القيمة والتصدير إلى أكثر من 150 دولة.
5. تونس: تميزت في إنتاج وتسويق زيت الزيتون البكر الممتاز، عبر التركيز على الجودة والتعبئة والترويج العالمي، مما جعلها من أكبر المصدّرين في المنطقة.
ثالثًا: الحلول الاستراتيجية لمصر
1.تعزيز الإنتاج المحلي وتنويع المصادر
- زيادة زراعة المحاصيل الزيتية مثل:
- بذرة القطن (استخراج الزيت من البذور).
- السمسم، دوار الشمس، فول الصويا في الأراضي الجديدة (مثل مشروع الدلتا الجديدة).
- التوسع في زيت الزيتون عبر تحديث المزارع في الساحل الشمالي وسيناء ومناطق الإستصلاج الحديثة.
حيث تتمتع مصر بميزة نسبية واضحة في مجال إنتاج زيت الزيتون، كونها إحدى دول حوض البحر الأبيض المتوسط، وهي المنطقة التي تُعد الأكثر ملاءمة عالميًا لزراعة الزيتون من حيث المناخ والتربة. وتمتلك مصر آلاف الأفدنة القابلة للتوسع بزراعة أشجار الزيتون،مما يمنحها فرصة ذهبية لزيادة إنتاجها من زيت الزيتون عالي الجودة، الذي يلقى طلبًا متزايدًا في الأسواق العالمية، خاصة الأوروبية والعربية.
الاستثمار في هذا القطاع لا يساهم فقط في تقليل الفجوة بين الاستيراد والاستهلاك المحلي، بل يفتح أبوابًا للتصدير تعزز الميزان التجاري المصري وتدعم الاقتصاد الوطني. كما يُعتبر زيت الزيتون من المنتجات ذات القيمة المضافة العالية، والتي تتماشى مع التوجهات العالمية نحو الغذاء الصحي والمستدام.
- تشجيع الاستثمار في مصانعالإستخلاص والتكرير المحلي لتقليل فاتورة الاستيراد.
2. ترشيد الاستهلاك ورفع الوعي المجتمعي
- إطلاق حملات توعوية عبر منصات التواصل والنوادى ومراكز الشباب والمدارس حول:
- اختيار الزيت المناسب (زيت أوليين للقلي،زيت زهرة الشمس والذرة والصويا للطبخ، زيت الزيتون للسلطات والطبخ).
- مخاطر إعادة استخدام الزيت مرات عديدة بدون ضوابط.
- توزيع كتيبات إرشادية للشيفات والطهاه وللمطاعم حول قياس جودة الزيت (TPM).
3. تطوير صناعة إعادة تدوير الزيوت المستعملة
تمثل الزيوت المستعملة موردًا مهدرًا يمكن تحويله إلى فرصة اقتصادية حقيقية، من خلال استخدامها في إنتاج الوقود الحيوي، والصناعات غير الغذائية مثل المنظفات والشحوم الصناعية. إعادة التدوير تساهم في تقليل التلوث، وتوفر مصدر دخل بديل، وتُسهم في تعظيم القيمة المضافة داخل الاقتصاد المحلي بدلًا من التخلص العشوائي منها أو تصديرها كمواد خام.
- إنشاء مصانع محلية لإنتاج الوقود الحيوي (الديزل الأخضر) من الزيوت المستهلكة.
- فرض غرامات على المطاعم التي تبيع الزيوت المستعملة للسوق السوداء.
- إشراك القطاع الخاص في إنشاء مراكز تجميع الزيوت المستهلكة وتحديد شركات دون غيرها للتعامل مع هذه المنتجات ومتابعتها ومراقبتها من الجهات المعنية دون تراخى.
4. سياسات داعمة وتشريعات رقابية
- فرض ضريبة على تصدير الزيوت الخام دون معالجة.
- دعم المزارعين ببذور عالية الإنتاجية وتسهيل القروض.
- تعزيز التعاون الإقليمي مع دول أفريقيا (مثل السودان وبعض البلاد الأفريقية الأخرى لتأمين وتنويع مصادرنا) لاستيراد الزيوت بأسعار تفضيلية.
الخاتمة: الأزمة فرصة للتحول الاستراتيجي
الأزمة الحالية ليست مجرد تحدٍ، بل فرصة لإعادة هيكلة قطاع الزيوت في مصر عبر:
✅ تقليل الاعتماد على الاستيراد عبر التوسع في الزراعة المحلية.
✅ تحقيق قيمة مضافة من إعادة تدوير الزيوت المستعملة.
✅ رفع كفاءة الاستهلاك عبر التشريعات الذكية والتوعية.
بتبني هذه الحلول، يمكن لمصر أن تحول أزمة الزيوت إلى قصة نجاح في تحقيق الأمن الغذائي والاستدامة الاقتصادية.
* أستاذ الدهون والزيوت بالمركز القومى للبحوث