مصر تحارب الجوع بالفدان.. وتنتصر بالأرض الخضراء

على مدار السنوات الماضية، شهدت الزراعة المصرية تحولات نوعية وقفزات تنموية غير مسبوقة، جعلت منها إحدى ركائز الأمن القومي وسلاحاً استراتيجياً لمواجهة أزمات عالمية طاحنة طالت سلاسل الإمداد والتوريد، وهددت استقرار الأمن الغذائي في كثير من الدول.
تحت مظلة "رؤية مصر 2030"، وضعت الدولة استراتيجية طموحة للتنمية الزراعية المستدامة، هدفت إلى تعزيز الاكتفاء الذاتي من المحاصيل الرئيسية، وتدعيم تنافسية الصادرات الزراعية في الأسواق العالمية، إلى جانب التوسع الأفقي واستصلاح ملايين الأفدنة، مع مراعاة الأبعاد البيئية والاجتماعية وتوفير فرص عمل حقيقية للشباب والمرأة في المناطق الريفية.
غزو الصحراء.. وفتح جبهات جديدة للزراعة
لم يكن توسع مصر في رقعتها الزراعية مجرد توسع أفقي فحسب، بل كان إعادة رسم لخريطة التنمية على أرض الواقع. فقد أطلقت الدولة مشروعات عملاقة لاستصلاح أكثر من 3.5 مليون فدان، في مقدمتها "توشكى الخير" بمساحة 1.1 مليون فدان، و"الدلتا الجديدة" بمساحة 2.2 مليون فدان، ومشروع تنمية شمال ووسط سيناء، ومشروع تنمية الريف المصري الجديد بمساحة 1.5 مليون فدان، بالإضافة إلى مشروعات في جنوب الصعيد والوادي الجديد بمساحة 650 ألف فدان.
تلك المشروعات، التي تتطلب استثمارات بمليارات الجنيهات، تُنفذ وفق أعلى معدلات الإنجاز، في وقت يشهد فيه العالم تصاعدًا في معدلات التصحر والجفاف وفقدان مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية.
زراعة سيناء.. تنمية وتوطين
ضمن جهود تنمية سيناء ودمج أبنائها في التنمية، تم إنشاء 18 تجمعًا زراعيًا تنمويًا بشمال وجنوب سيناء، شملت استصلاح نحو 11 ألف فدان، يستفيد منها ما يزيد عن 2000 أسرة، حيث يحصل كل مستفيد على 5 أفدنة ومنزل داخل تجمع سكني متكامل.
برنامج تقاوي الخضر.. كسر التبعية وتقليل الاستيراد
في خطوة جادة نحو تقليل فاتورة الاستيراد، تبنت وزارة الزراعة برنامجًا لإنتاج تقاوي محاصيل الخضر محليًا، بعد أن كانت مصر تعتمد على الخارج في أكثر من 95% من احتياجاتها. ونجح البرنامج في استنباط وتسجيل 26 صنفًا وهجينًا لعشرة محاصيل أساسية، من بينها الطماطم والخيار والباذنجان والفلفل، بالتعاون مع شركات عالمية من الهند والبرازيل، عبر آليات شراكة توفر بذورًا ملائمة للبيئة المصرية بأسعار مناسبة للمزارعين.
الصادرات الزراعية.. قوة مصر الناعمة تغزو 160 سوقًا
أثبتت الصادرات الزراعية المصرية قدرتها على فرض حضورها في الأسواق العالمية، حيث وصلت إلى نحو 4.8 مليون طن منذ بداية العام الجاري، مقارنة بـ4.3 مليون طن في نفس الفترة من العام الماضي. كما تُصدر مصر حاليًا أكثر من 405 سلعة زراعية إلى 160 دولة، وتربعت على عرش صادرات البرتقال عالميًا لثلاثة أعوام متتالية.
ونجحت الدولة في رفع الحظر عن صادراتها من الحاصلات الزراعية إلى بعض دول الخليج، كما أزالت القيود الأوروبية عن صادرات العنب والفراولة، بجهود تنسيقية بين وزارة الزراعة، والمجلس التصديري، ووزارات الخارجية والتجارة والصناعة.
الصوامع والاحتياطي الاستراتيجي.. أمان غذائي مستدام
توسعت الدولة في إنشاء الصوامع الحديثة لرفع القدرة التخزينية إلى أكثر من 5.5 مليون طن، ما أسهم في تعزيز الاحتياطي الاستراتيجي من السلع الأساسية، خاصة القمح، إلى جانب تنويع مناشئ الاستيراد وتأمين مصادر مستدامة للذرة والمحاصيل الزيتية.
كما ارتفع عدد الحقول الإرشادية للقمح إلى 7 آلاف حقل في الموسم الحالي، بواقع حقل لكل زمام جمعية زراعية، ما ساعد على زيادة الإنتاجية وتقليل الفاقد.
الثروة الحيوانية والسمكية.. تطوير شامل وإنتاج متنوع
استكمالاً لرؤية التطوير، أنشأت الدولة 600 نقطة تلقيح اصطناعي مجهزة بكافة المعدات في الوحدات البيطرية، وأطلقت مشاريع عملاقة في الثروة السمكية، جعلت مصر تحتل المركز الثالث عالميًا في إنتاج البلطي، والأول إفريقيًا في الاستزراع السمكي.
كما تم إصدار قانون تنمية البحيرات والثروة السمكية، وطرح 21 موقعًا للاستزراع بالأقفاص البحرية في البحرين الأحمر والمتوسط، إلى جانب إطلاق المشروع القومي لتنمية البحيرات وإزالة التعديات منها.
التحول الرقمي والزراعة الذكية
مواكبة للعصر، خطت وزارة الزراعة خطوات متقدمة في التحول الرقمي بإطلاق 20 خدمة إلكترونية للمزارعين، وتعميم منظومة "كارت الفلاح"، إلى جانب إنشاء المنصة الزراعية الرقمية وميكنة خدمات الحجر الزراعي، وربط الموانئ إلكترونيًا لتيسير عمليات التصدير.
تمويل دولي وشراكات تنموية لصالح صغار المزارعين
نجحت الوزارة في جذب تمويلات دولية بقيمة 350 مليون دولار، وجهت لتنفيذ مشروعات تنموية وفنية لصالح صغار المزارعين، شملت مكافحة التصحر، وحفر الآبار في المناطق الحدودية، وإنشاء محطات طاقة شمسية، بالإضافة إلى مشروع قومي لتطوير زراعة قصب السكر بالشتل.
الزراعة في مصر لم تعد مجرد قطاع إنتاجي تقليدي، بل أصبحت ركيزة اقتصادية واستراتيجية تسهم في استقرار الأمن الغذائي، وخلق فرص العمل، وتعزيز الدور المصري في الأسواق العالمية. ومع استمرار الدولة في ضخ الاستثمارات وتبني الحلول الذكية والمستدامة، فإن الحلم بتحقيق الاكتفاء الذاتي أصبح أكثر قربًا من أي وقت مضى.