الأرض
الإثنين 14 يوليو 2025 مـ 01:39 مـ 18 محرّم 1447 هـ
موقع الأرض
رئيس مجلس الإدارةخالد سيفرئيس التحريرمحمود البرغوثيالمدير العاممحمد صبحي

تدوير نافع إلى وقود وصابون وشموع

الزيوت الغذائية المستعملة .. من خطرٍ صامت إلى ثروة مستدامة

في مطابخنا اليومية ومطاعمنا العامة، تختبئ كارثة لا تُرى بالعين المجرّدة. بضع لترات من الزيت بعد القلي، تبدو للوهلة الأولى نفايات عادية، لكنها في الحقيقة قنابل صحية وبيئية موقوتة. حين يُسكب الزيت المستعمل في البالوعات، يُدمِّر شبكات الصرف. وعندما يُعاد استخدامه في تحضير الطعام، يتحول إلى سمّ بطيء يتسلل إلى أجسادنا، فيؤذي الكبد، ويهدد القلب، ويزرع خلايا المرض دون إنذار.

فرصة ذهبية في النفايات الضارة

لكن العالم من حولنا علّمنا درسًا مهمًا: ما نعتبره "نفاية"، قد يكون "فرصة ذهبية". اليابان، الاتحاد الأوروبي، أمريكا الشمالية، وحتى دبي... كلهم نجحوا في تحويل الزيت الملوث إلى مصدر للطاقة والنظافة والربح. ومصر، بما تملكه من إمكانيات بشرية وعلمية وتشريعية، قادرة على أن تحذو هذا الطريق، بشرط الإرادة الصارمة والتنسيق الذكي، من خلال عدة خطوبات:

أولاً: تشريعات حازمة لا تعرف التهاون. يجب تحديث القوانين لحظر إعادة الاستخدام الغذائي للزيوت تمامًا، مع تحديد نسب قصوى للمواد الضارة مثل المواد القطبية الكلية TPM.

ويُشترط على جميع المنشآت، من المطاعم الصغيرة إلى سلاسل الفنادق، إمساك سجلات دقيقة لحركة الزيوت، تتكامل مع نظام تتبّع إلكتروني يضمن الشفافية من المطبخ حتى مصنع التدوير. أما المخالفون؟ فالغرامات القاسية، والإغلاق الفوري، هي الرد الحاسم.

وفي هذا السياق، بدأت مصر بالفعل أولى خطواتها التشريعية، حيث أصدرت الهيئة القومية لسلامة الغذاء، بالتعاون مع الجهات المعنية وجهاز شؤون البيئة، القرار رقم 1 لسنة 2023 بشأن آلية التعامل مع الزيوت والدهون والشحوم الغذائية المستعملة ومخاليطها ومخلفاتها المستخدمة في إنتاج الغذاء، وساهم المركز القومي للبحوث في وضع هذا القرار، تأكيدًا على أهمية التكامل بين العلم والتشريع. غير أن نجاح هذه الخطوة يظل مرهونًا بتفعيل الرقابة، والمتابعة الميدانية، والتطبيق الحازم على أرض الواقع.

ثانيًا: منظومة جمع ذكية لكل زاوية. ترخيص شركات متخصصة لجمع الزيوت، خاصة في المدن الكبرى والمناطق الصناعية، ضرورة لا مفر منها. ويجب توزيع حاويات مغلقة مجانًا على المطاعم الصغيرة، وإنشاء نقاط تجميع في مراكز الشباب والجمعيات الأهلية. كل ذلك تحت أعين الرقابة الميدانية من "سلامة الغذاء" و"شؤون البيئة"، وبالتنسيق مع السلطات المحلية.

ثالثًا: صناعة وطنية تُنتج من النفايات ثروات. تحويل الزيت المستهلك إلى ديزل حيوي، صابون، شموع، أو مواد أولية صناعية، هو هدف اقتصادي وبيئي قابل للتنفيذ. ولإنجاح هذه الصناعة: يجب الربط بين شركات الجمع ومرافق المعالجة المعتمدة، إصدار شهادات جودة إجبارية، تقديم حوافز ضريبية، واعتماد مواصفات مصرية صارمة لضمان نقاء المنتج، خصوصًا في الوقود الحيوي.

رابعًا: تجارب عالمية مُلهمة. اليابان تُلزم المطاعم بعقود رسمية مع شركات جمع مرخّصة. الاتحاد الأوروبي يُطبَّق مبدأ المسؤولية الممتدة للمنتِج. أمريكا الشمالية تُمنح المطاعم الملتزمة خصومات على رسوم الترخيص. كندا تُبنى شراكات بين الحكومة والقطاع الخاص. الإمارات العربية المتحدة، دبي تُعد نموذجًا رائدًا عربيًا في الاستفادة من الزيوت المستعملة، حيث وضعت نظامًا منظمًا لجمع الزيوت وتحويلها إلى وقود حيوي، ضمن استراتيجية بيئية تهدف إلى الاستدامة وتقليل البصمة الكربونية.

خامسًا: التوعية... حائط الصد الأول. الوعي المجتمعي هو الضمان الحقيقي لنجاح أي منظومة. يجب إطلاق حملات إعلامية جريئة تُظهر التأثير الفتاك للزيوت المسرطنة، مع تدريب العاملين في المطاعم على الأضرار الصحية والقانونية. ومن الضروري إطلاق منصة إلكترونية للإبلاغ عن المخالفات، تشمل تطبيقًا للهواتف ورقم واتساب مباشر.

سادسًا: البحث العلمي... شريك دائم في النجاح. دعم الجامعات والمراكز البحثية لتطوير أجهزة تحليل ميدانية منخفضة التكلفة وسريعة النتائج سيسهم في كشف الزيوت المغشوشة، ويوفر أداة رقابة فعالة في الأسواق والمطاعم..

سابعًا: لجنة وطنية موحدة. يجب تأسيس لجنة وطنية دائمة، تضم ممثلين عن "هيئة سلامة الغذاء"، "وزارة البيئة"، "وزارة الصحة"، "وزارة الصناعة"، والقطاع الخاص. تكون مهمتها وضع السياسات العامة، متابعة التنفيذ، وحل التعارضات، وضمان التحديث المستمر للمنظومة.

وأخيرًا: تحويل الزيت المستعمل من عبء سام إلى فرصة مستدامة ليس حلمًا... بل ضرورة عاجلة. مئات الأطنان من الزيوت المهدرة يمكن أن تتحول إلى ملايين الجنيهات، وتخلق فرص عمل، وتقلل من الاستيراد، وتحمي صحة الملايين.

وفي مصانع التدوير، تتحول الزيوت السوداء إلى وقود نظيف. والعائق لم يكن في التكنولوجيا... بل في القرار. فهل ننتظر المزيد من السرطانات وتدمير شبكات الصرف؟ أم نبدأ فورًا؟ السؤال لم يعد: هل نستطيع؟ بل: متى نبدأ؟ فكل تأخير يهدد أبناءنا، ويقتل بيئتنا، ويُهدر ثرواتنا.

ملحوظة: الدكتور عادل جبر عبد الرازق (كاتب هذا التقرير) حاز عضوية اللجنة التي وضعت القرار رقم 1 لسنة 2023 بشأن آلية التعامل مع الزيوت والدهون والشحوم الغذائية المستعملة ومخاليطها ومخلفاتها المستخدمة في إنتاج الغذاء، ممثلًا عن المركز القومي للبحوث.

* أستاذ ورئيس قسم الزيوت والدهون - المركز القومي للبحوث