الأرض
الخميس 6 نوفمبر 2025 مـ 12:05 صـ 14 جمادى أول 1447 هـ
موقع الأرض
رئيس مجلس الإدارةخالد سيفرئيس التحريرمحمود البرغوثيالمدير العاممحمد صبحي

متى يصمت الأستاذ هيكل؟!

أعلم أن للكلام شهوة، ولولا تلك الشهوة ما تكالب عليه العلماء، كما قال القطب الصوفى الكبير سفيان الثورى، الذى كان يفر من الناس هارباً اذا ما رآهم منصتين له، مشدوهين مبهورين بما يقول.


فإذا ما كان للكلام ثروة كبيرة تقابله، وشهرة طاغية تجوب الآفاق، فتلك الشهوة يصبح دونها الموت الزؤام، ولاشيء يوقفها أو يردها.


والأستاذ هيكل الذى أتم عامه الثانى والتسعين فى ديسمبر الماضى، بلغ حد الأسطورة فى العمل الصحفى والكتابة، وشغل المناصب، وشغل الناس بما يقول، حتى كانت جموع المصريين تنتظر مقاله الأسبوعى (بصراحة) فى "أهرام الجمعة"، كما تنتظر خطابات عبد الناصر وحفلات أم كلثوم.


هذا الرجل الأسطورة، فتح له القدر كل المغاليق، وأعطاه من كل شيء سبباً، فاتبع سببا، هو فى الحقيقة ليس كاتباً صحفياً يتابع الأحداث، ويسجل انطباعه عنها وحسب، وانما هو مبدع، يمتلك أدوات الكتابة الأدبية الساحرة، والصياغات الفنية المبهرة، وهو قاص وأديب ضل طريقه الى عالم صاحبة الجلالة.


وهو من الصحافيين القلائل الذين يزينون أفكارهم بأبيات من شعر المتنبى وشوقى وغيرهما، وهو قد حسب نفسه على المبدعين الكبار وان ظل متمسكاً بكونه (جورنالجى).


والمبدعون لا يتوقفون عن إبداعهم، ولا يعتزلون، فهذا عمنا كبير المبدعين العرب نجيب محفوظ، ظل يكتب حتى آخر رمق، وعندما اعتدى عليه واحد من الموتورين المتطرفين وحاول ذبحه بطريقة وحشية، وحز رقبته بأسلوب داعشى متقدم، وأصيبت يده اليمنى بالشلل التام، اذا به يتدرب على الكتابة بيده اليسرى، فكتب أحلام فترة النقاهة بها، وهى خطرات فلسفية عميقة الدلالة مبهرة، وظل يكتب حتى السادسة والتسعين من عمره المديد بلا توقف.


والأستاذ هيكل عندما أتم عامه الثمانين، عام 2003، كتب يستأذن فى الانصراف، ولكن يبدو أنه قصد الانصراف عن الكتابة المنتظمة والعمل الصحفى فقط، وكان وقتها يكتب فى مجلة وجهات نظر، ويشرف على رئاسة تحريرها.


لكن شهوة الكلام تراوده عن نفسه، فاذا كان قد توقف عن الكتابة المنتظمة فى الصحف، الا أنه بدأ مرحلة جديدة، تجلت فى مجموعة من الأحاديث التلفزيونية، أهمها أحاديثه فى قناة الجزيرة القطرية، والتى امتدت لسنوات، ثم أخيراً أحاديثه حول مصر، أين، والى أين، والتي أراها سحبا من رصيد الأستاذ، حيث تعقلل من إبهاره المعتاد.


فالرجل مطارد بعمره، ومحاصر بذاته، والكلمات تخرج منه غير واضحة ولامفهومة، والجمل غير متماسكة، والأفكار مشتتة، والسرد التاريخى يغلب على ذاكرته المزدحمة بآلاف الحكايات والمواقف والأشخاص والتواريخ والوقائع والأماكن، وهى ذاكرة تسعينية بدأت فى التآكل رغم عبقريتها.


فاذا كان المطلوب من الأستاذ أن يشرح حال مصر ثم يطرح رؤيته للمستقبل، فان ذلك يشق عليه كثيراً، وهو مهما تماسك وحاول، يظل للبيولوجيا رأى آخر، فاللسان ثقيل، ويزداد ثقلاً مع تقدم العمر، حتى تكاد لا تفهم فكرة واحدة مكتملة يطرحها الأستاذ، ولا ترى طريقاً واضحاً ينطلق فيه بثقة ووضوح كما عهدناه، وانما هى بعثرات، وشذرات رؤية، وشظايا كلمات لا رابط بينها، مدعومة ببقايا قدرة عبقرية على الحكى والسرد التاريخى لواقع عاشه الأستاذ وشارك فى صياغته.


ولهذا، أرى أنه آن الأوان لأن يتوقف الأستاذ عن الكلام، وأن يصمت صمت الحكماء، وأن يراقب المشهد مراقبة الخبير، وأن يدلى برأيه كلما طلب منه ذلك، فالرجل مستقبله وراءه، وما قام به عظيم ويكفيه للخلود، وسيظل علامة لن تتكرر من علامات الصحافة والفكر والسياسة المصرية والعربية، وستظل علامته غير قابلة للتقليد أو الاستنساخ.