تراجع أسعار القمح عالميًا يفتح نافذة مهمة لمصر لتقليل فاتورة الاستيراد وتعزيز الأمن الغذائي
تتجه أسعار القمح في الأسواق العالمية إلى تسجيل أكبر خسارة أسبوعية لها منذ يونيو، بعد تراجعها بنحو 4%، في ظل وفرة المعروض العالمي، وارتفاع المخزونات، وضعف النشاط الشرائي مع اقتراب نهاية العام، وهو تطور يحمل دلالات مهمة بالنسبة لمصر باعتبارها أكبر مستورد للقمح في العالم.
ويأتي هذا الانخفاض مدفوعًا بعدة عوامل متزامنة، أبرزها ارتفاع تقديرات الإنتاج في عدد من الدول المصدرة الرئيسية، وعلى رأسها الأرجنتين وكندا ودول الاتحاد الأوروبي، إلى جانب تحسن الظروف المناخية في مناطق الإنتاج، ما عزز من توقعات استمرار فائض المعروض خلال الفترة المقبلة. كما رفعت وزارة الزراعة الأمريكية تقديراتها لمخزونات القمح العالمية، وهو ما شكل ضغطًا إضافيًا على الأسعار.
من الناحية الاقتصادية، يمثل تراجع أسعار القمح فرصة مباشرة لتقليص فاتورة الاستيراد المصرية، في ظل اعتماد البلاد على استيراد ما يتراوح بين 10 و12 مليون طن سنويًا لتلبية احتياجات الاستهلاك المحلي ومنظومة دعم الخبز. ويعني كل انخفاض محدود في السعر العالمي وفورات معتبرة في الإنفاق من النقد الأجنبي، وهو ما ينعكس إيجابًا على ميزان المدفوعات ويخفف الضغط على الاحتياطيات.
كما يمنح هذا التراجع مصر مساحة أوسع للمناورة في سياسات الشراء، سواء من حيث تنويع المناشئ أو توقيت التعاقدات. فاشتداد المنافسة بين كبار المصدرين، وعودة الأرجنتين بقوة إلى سوق القمح، يرفع من القدرة التفاوضية للمستوردين الكبار، وفي مقدمتهم الهيئة العامة للسلع التموينية، بما يسمح بالحصول على شروط سعرية وتمويلية أفضل.
في المقابل، لا يمكن فصل حركة القمح عن الأداء العام لأسواق الحبوب، حيث يشهد كل من الذرة وفول الصويا ضغوطًا سعرية مماثلة نتيجة وفرة الإمدادات وضعف الطلب الموسمي، خاصة من الصين. هذا التزامن في تراجع أسعار الحبوب يقلل من فرص حدوث تعافٍ سريع في أسعار القمح على المدى القصير، ما يعزز من احتمالات استمرار المستويات السعرية المنخفضة نسبيًا خلال الربع الأول من العام المقبل.
أما على صعيد الأمن الغذائي، فإن انخفاض الأسعار العالمية يوفر فرصة لتعزيز المخزون الاستراتيجي من القمح دون أعباء مالية إضافية، وهو عنصر حاسم في ظل التقلبات الجيوسياسية وسلاسل الإمداد العالمية غير المستقرة. كما يدعم ذلك استقرار منظومة دعم الخبز، التي تمثل أحد أعمدة الحماية الاجتماعية في مصر، خاصة في ظل الضغوط التضخمية العالمية.
ومع ذلك، يبقى الأثر الفعلي لتراجع الأسعار العالمية مرهونًا بعدة عوامل داخلية، في مقدمتها سعر الصرف، وتكاليف الشحن والتأمين، إضافة إلى توقيت وآليات التعاقد. ورغم هذه المتغيرات، تشير المعطيات الحالية إلى أن سوق القمح العالمية تمر بمرحلة وفرة واضحة في المعروض، ما يمنح مصر فرصة مهمة لإعادة ترتيب أولويات الاستيراد وتعظيم الاستفادة من الظروف السعرية الحالية.
في المجمل، فإن التراجع الأخير في أسعار القمح لا يمثل مجرد حركة تصحيحية في السوق، بل يعكس تحولات أعمق في ميزان العرض والطلب العالمي، ومن شأن حسن إدارة هذه المرحلة أن يسهم في تعزيز الأمن الغذائي المصري وتقليل الأعباء المالية على الموازنة العامة للدولة.


.jpg)























