الأرض
الإثنين 8 سبتمبر 2025 مـ 11:39 مـ 15 ربيع أول 1447 هـ
موقع الأرض
رئيس مجلس الإدارةخالد سيفرئيس التحريرمحمود البرغوثيالمدير العاممحمد صبحي

التغليف: أداة استراتيجية لتوطين الصناعات الغذائية وتعزيز التنافسية عالميًا

د/ منى أحمد عبد العاطى العبد 
د/ منى أحمد عبد العاطى العبد 

لم يعد التغليف مجرد غلاف يحمي المنتج من التلف أو وسيلة لتسهيل نقله وتخزينه، بل تحوّل اليوم إلى أداة استراتيجية تعكس صورة المنتج، وتحدد فرصته في البقاء والمنافسة داخل الأسواق. فبينما ينظر البعض إلى التغليف باعتباره عملية فنية ثانوية، تؤكد الدراسات والتجارب العالمية أن العبوة أصبحت "واجهة المنتج" و"جواز مروره" نحو الأسواق المحلية والعالمية. وفي ظل انفتاح الأسواق العالمية وتزايد التحديات أمام المنتجات الغذائية المحلية، أصبح من الضروري توظيف أدوات استراتيجية تُمكّن المنتجات من المنافسة على المستويين المحلي والدولي. ويُعد التغليف أحد أبرز هذه الأدوات، لما له من أثر مباشر على جودة المنتج، صورته الذهنية، والامتثال للتشريعات التنظيمية.
تتعدد وظائف التغليف بين الحماية من التلوث والتلف، الحفظ لإطالة العمر التخزيني، التسويق من خلال جذب المستهلك، وتقديم المعلومات الضرورية حول المكونات والصلاحية. لكن مع تصاعد التحديات البيئية، برز بُعد جديد وهو الاستدامة، حيث اتجهت الشركات إلى تطوير عبوات صديقة للبيئة وقابلة لإعادة التدوير أو التحلل الحيوي. وتعتمد التعبئة المستدامة على استخدام مواد قابلة لإعادة التدوير، أو المواد القابلة للتحلل البيولوجي، أو المواد المعاد استخدامها في عملية التغليف، الهدف منها هو تقليل الآثار البيئية للتعبئة التقليدية، مثل البلاستيك الأحادي الاستخدام. واعتماد تقنيات التعبئة المستدامة يمكن أن يساهم في بناء سلسلة توريد محلية، حيث يمكن استخدام المواد الخام المحلية مثل الورق، الألياف النباتية، أو النشا في صناعة العبوات، مما يدعم الاقتصاد المحلي ويخلق فرص عمل جديدة في قطاع التغليف والصناعة الغذائية.
من هنا يمثل التغليف عنصرًا رئيسيًا في جهود توطين الصناعات الغذائية، إذ يتيح: تقليل الاعتماد على استيراد مواد التغليف عبر تشجيع التصنيع المحلي، تصميم عبوات تتماشى مع الثقافة والهوية الوطنية، وخلق فرص عمل في مجالات التصميم والإنتاج والطباعة. حيث ان توطين الصناعات الغذائية يعني تطوير سلسلة القيمة الإنتاجية داخل الدولة من خلال الاعتماد على المواد المحلية، الكفاءات الوطنية، والتكنولوجيا المتاحة محليًا. ويُعتبر التغليف أحد أهم الحلقات في هذه السلسلة.
ويساهم التغليف في التوطين عن طريق عدة عوامل منها
١- تحفيز سلاسل الإمداد المحلية عن طريق تطوير مصانع محلية لإنتاج مواد التعبئة (مثل الورق، البلاستيك الحيوي، العبوات الزجاجية) لتقليل الاعتماد على الواردات، خصوصًا للعبوات الجاهزة أو الفاخرة.
٢- خلق فرص عمل محلية عن طريق التوسع في قطاع التغليف يؤدي إلى زيادة فرص العمل في مجالات التصميم، الإنتاج، الطباعة، والرقابة.
٣- تعزيز الهوية الثقافية في الأسواق عن طريق استخدام رموز وطنية وألوان مستوحاة من البيئة المحلية في التصميم. مثل تغليف منتجات التمور السعودية بخط الثلث العربي وتغليفات صديقة للبيئة نال إعجاب الأسواق الآسيوية.
٤. تخفيض الكلفة التشغيلية عن طريق استخدام التغليف المحلي يعني كلفة شحن أقل، وتوفّر قطع الغيار والمواد بسرعة أكبر، والكفاءة اللوجستية تسهم في تقوية الربحية والتنافسية.
كما انه في ظل انفتاح الأسواق، يلعب التغليف دورًا حاسمًا في رفع القدرة التنافسية من خلال:
١- تحسين الانطباع الأولي للمنتج عن طريق التغليف الجذاب يعزز من قبول المنتج بصريًا لدى المستهلك. وتشير الأبحاث إلى أن 70% من قرارات الشراء في المتاجر تُتخذ لحظيًا عند رؤية العبوة.
٢- التميّز في الرفوف والأسواق عن طريق تغليف مبتكر يخلق فارقًا بصريًا بين المنتج المحلي والمستورد. واستخدام عناصر تصميم محلية (كالخط العربي أو الزخرفة التقليدية) يساهم في تقوية الهوية الثقافية للمنتج.
٣- الامتثال للمعايير الدولية في الأسواق العالمية، لا سيما في الاتحاد الأوروبي وأمريكا الشمالية، تفرض ضوابط صارمة على مواد التغليف (مثل BPA-free، recyclable، food-grade). وكذلك التغليف المتوافق مع هذه المعايير يسهل دخول المنتج للأسواق الخارجية.
٤- حماية الجودة وإطالة العمر التسويقي من خلال العبوات المصممة جيدًا والتي تساهم في حفظ المنتج من التلوث، الأكسدة، وفقدان الرطوبة. وهذا يحسّن صورة العلامة التجارية ويقلل المرتجعات.
٥- تحسين سلسلة الإمداد والتوزيع من خلال استخدام عبوات متينة وخفيفة الوزن تقلل من التكاليف اللوجستية. والتغليف الذكي (Smart Packaging) يوفّر تتبعًا لحالة المنتج أثناء النقل. ومن الأمثلة الملهمة، شركة مشروبات عالمية أعادت تصميم عبواتها في الشرق الأوسط باستخدام نقوش هندسية تقليدية، ما ساعد على رفع المبيعات بنسبة 20%
لذا فالابتكار في التغليف لم يعد رفاهية، بل أصبح ركيزة للتفوق، ويتجلى في التغليف الذكي باستخدام رموز QR أو تقنيات الواقع المعزز لإتاحة معلومات مباشرة للمستهلك، التخصيص عبر الطباعة الرقمية حسب المواسم أو المناسبات، والتغليف المستدام من خلال الاعتماد على مواد نباتية أو معاد تدويرها.
إلا انه برغم الآفاق الواعدة، يواجه القطاع عدة تحديات مثل ارتفاع تكاليف المواد الخام، اشتراطات المعايير الدولية، وتغير تفضيلات المستهلكين. في المقابل، تبرز فرص قوية أهمها النمو المتسارع للتغليف المستدام والطلب المتزايد في التجارة الإلكترونية على حلول آمنة وخفيفة الوزن.
وهناك بعض التوصيات لتعزيز دور التغليف كأداة استراتيجية،
من خلال التركيز على دعم البحث والتطوير في مواد وتقنيات التغليف، توفير برامج تدريبية لبناء كوادر وطنية متخصصة، تحفيز الاستثمار في مصانع التغليف المحلية، إطلاق مسابقات وطنية لتصميم عبوات تعكس الهوية الثقافية وتواكب الاستدامة، ضرورة دعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة في تطوير أنظمة التعبئة لديها، تشجيع التصنيع المحلي لمواد التغليف لتقليل التبعية الخارجية، تعزيز التعاون بين القطاعات الأكاديمية والصناعية لتطوير حلول تغليف مبتكرة ومستدامة، وتنظيم حملات توعية تدريبية لرفع كفاءة العاملين في مجال التعبئة والتغليف الغذائي.
اذن فالتغليف اليوم هو ركيزة اقتصادية وثقافية واستراتيجية. فهو يحافظ على جودة المنتج، يعزز ثقة المستهلك، يفتح أبواب التصدير، ويدفع عجلة التوطين الصناعي. وباختصار، العبوة لم تعد مجرد غلاف، بل هي رسالة وهوية وأداة تنافسية تساهم في بناء اقتصاد غذائي أكثر قوة واستدامة. وبالاستدامة، تستطيع الشركات الغذائية توطين صناعاتها وزيادة قدرتها التصديرية. إن تبني هذه التقنيات سيُساهم في تحسين سلاسل الإمداد، تقليل التكاليف، وتحقيق قيمة مضافة للمنتجات الغذائية المحلية، وبالتالي دفع الاقتصاد الوطني نحو مزيد من النمو والتطور.

*باحث أول بقسم هندسة التصنيع و التعبئة و التغليف

معهد بحوث تكنولوجيا الأغذية

موضوعات متعلقة