تقنيات إزالة اللاكتوز من الحليب وتأثيراتها على الخصائص الحسية والقيمة الغذائية

يمثل الحليب ومنتجاته عنصرا غذائيا أساسيا في النظام الغذائي للإنسان لما يحتويه من مزيج متوازن من البروتينات، الدهون، الكربوهيدرات، الفيتامينات والمعادن و اللاكتوز هو السكر الرئيسي في الحليب ويشكّل نحو 4.5–5% من محتواه غير أن وجود سكر اللاكتوز في الحليب يسبب مشكلة صحية لكثير من الأشخاص الذين يعانون من حالة تعرف باسم عدم تحمل اللاكتوز (Lactose Intolerance) وهي حالة ناتجة عن نقص أو غياب إنزيم اللاكتيز في الأمعاء الدقيقة مما يؤدي إلى عدم القدرة على هضم اللاكتوز ويسبب أعراض مزعجة كالانتفاخ والغازات والإسهال بعد تناول الحليب. وتشير الدراسات إلى أن أكثر من 65% من سكان العالم البالغين يعانون من درجات متفاوتة من هذه الحالة.
تلبية لهذه الحاجة الصحية أصبحت إزالة اللاكتوز من الحليب مسألة حيوية سواء على الصعيد الصحي أو التجاري وأدى ذلك إلى تطوير تقنيات متعددة لإزالة اللاكتوز أو تقليله من الحليب ومنتجاته مع الحفاظ على الخصائص الحسية والقيمة الغذائية للحليب. يستعرض هذا المقال أهم هذه التقنيات ويركز على مقارنة الطرق الإنزيمية والفيزيائية من حيث الآلية والكفاءة والتأثيرات الحسية.
أولًا: الطرق الإنزيمية لإزالة اللاكتوز
تعتمد الطرق الإنزيمية على التحلل الإنزيمي للاكتوز باستخدام إنزيم اللاكتيز (β-galactosidase) الذي يقوم بتحويل اللاكتوز إلى وحدتين بسيطتين هما الجلوكوز والجالاكتوز وهما قابلان للامتصاص بسهولة في الجهاز الهضمي للأشخاص الذين يعانون من عدم تحمّل اللاكتوز. هذه الطريقة لا تزيل اللاكتوز فعليا من الحليب بل تحوّله إلى سكريات أخرى يسهل هضمها.
مصادر إنزيم اللاكتيز (Lactase Sources)
يستخدم إنزيم اللاكتيز على نطاق واسع في معالجة الحليب منخفض أو خالي اللاكتوز ويمكن استخلاصه من عدة مصادر لكل منها خصائصها الخاصة من حيث النشاط الإنزيمي والتحمل الحراري ودرجة الحموضة المثلى. وتشمل هذه المصادر ما يلي:
1- المصادر الميكروبية
وتعد الأكثر استخداما تجاريا نظرًا لتوفرها ولسهولة الإنتاج والتحكم في خصائص الإنزيم. من أهم الكائنات المنتجة:
• Kluyveromyces lactis فطر خميرينتج إنزيما فعالا في درجة الحموضة المحايدة ويستخدم على نطاق واسع لإنتاج إنزيم فعال في وسط معتدل الحموضة (pH 6–7). ويستخدم في معالجة الحليب الطازج.
• Aspergillus oryzae وAspergillus niger فطريات تنتج إنزيمات فعالة في الأوساط الحمضية منخفضة pH ما يجعله مثاليا في منتجات الألبان المخمرة مثل اللبن والزبادي.
2- المصادر الحيوانية
يستخلص اللاكتيز من الجدر الطلائية للأمعاء الدقيقة للعجول حديثة الولادة وهو مشابه للإنزيم البشري لكن استخدامه الصناعي محدود بسبب القيود الأخلاقية والدينية.
3- المصادر النباتية
رغم أن النباتات لا تنتج إنزيم اللاكتيز بنفس الشكل الموجود في الثدييات أو الميكروبات إلا أن بعض النباتات تحتوي على إنزيمات من عائلة الجليكوسيداز ذات قدرة جزئية على تكسير روابط β-galactosidic مثل الموجودة في اللاكتوز.
• أمثلة على النباتات التي أظهرت نشاطًا إنزيميا مشابها:
- اللوز المر: يحتوي على إنزيمات من نوع β-glucosidase والتي تُظهر قدرة محدودة على تحلل اللاكتوز.
-القرعيات مثل الكوسا واليقطين: تم الإبلاغ عن وجود نشاط إنزيمي مشابه لللاكتيز في بذورها لكن بمعدلات منخفضة.
• حاليا تجرى أبحاث مكثفة لعزل إنزيمات نباتية نشطة تجاه اللاكتوز من خلال التحوير الجيني أو تعزيز التعبير الإنزيمي في النباتات المعدلة وراثيا.
هناك أيضا اهتمام باستخدام نباتات كنظم إنتاج حيوي (bioreactors) لإنتاج إنزيم اللاكتيز الميكروبي من خلال تقنيات الهندسة الوراثية ما يفتح الباب أمام حلول نباتية مستدامة.
بالرغم من أن المصادرالميكروبية هي الأكثر شيوعا وفعالية نجد المصادر النباتية تمثل مجالا واعدا للبحوث المستقبلية خصوصا في ظل التوجه نحو الحلول الطبيعية والنباتية. إلا أن التحديات التقنية مثل انخفاض الفعالية والانتقائية الإنزيمية ما تزال تحد من تطبيقها على نطاق واسع.
التطبيقات الصناعية
يستخدم اللاكتيز على نطاق واسع في الصناعة إما بإضافته مباشرة إلى الحليب (في خطوط الإنتاج) أو باستخدام إنزيمات مثبتة (immobilized enzymes) على حوامل صلبة لتمرير الحليب خلالها، مما يسمح بإعادة استخدام الإنزيم وتقليل التكاليف التشغيلية.
• المعالجة في الخط (Batch processing): يضاف الإنزيم مباشرة إلى الحليب قبل التعبئة.
• المعالجة أثناء التدفق (In-line processing): تمرير الحليب خلال أعمدة تحتوي على إنزيمات مرتبطة كيميائيًا (immobilized enzymes).
ثانيا: الطرق الفيزيائية لإزالة اللاكتوز
1- الترشيح الغشائي (Membrane Filtration)
يعد من أكثر الطرق الفيزيائية شيوعا ويعتمد على استخدام أغشية شبه منفذة لعزل مكونات الحليب بناء على حجم الجزيئات:
• الترشيح الدقيق (Ultrafiltration): يسمح بمرور اللاكتوز والماء ويحتجز البروتينات والدهون.
• الترشيح النانوي (Nanofiltration): يستخدم لإزالة جزيئات صغيرة الحجم كاللاكتوز وبعض الأملاح.
يمكن أن تدمج هذه التقنية مع عمليات إنزيمية لاحقة للوصول إلى مستويات منخفضة جدا من اللاكتوز.
2- التبادل الأيوني (Ion Exchange)
تعتمد هذه التقنية على تمرير الحليب خلال أعمدة تحتوي على راتنجات تبادل أيوني وهي بوليمرات عضوية تحتوي على مجموعات نشطة سالبة أو موجبة الشحنة. تعمل هذه الراتنجات على امتصاص الجزيئات الذائبة مثل اللاكتوز والأملاح واستبدالها بأيونات غير فعالة موجودة على سطح الراتنج.
المميزات:
• إزالة فعالة ودقيقة للاكتوز.
• لا يحدث تغيرا كيميائيًا في بنية الحليب.
• قابل للضبط بدقة.
العيوب:
• احتمالية إزالة بعض العناصر الغذائية مثل الكالسيوم والمغنيسيوم.
• قد تؤثر على الطعم بسبب إزالة مركبات ذائبة.
• تتطلب مراقبة دقيقة وتكاليف تشغيل عالية.
3-الكروماتوغرافيا
تقنية دقيقة تعتمد على الفصل على أساس التفاعلات بين مكونات الحليب ومواد التعبئة في الأعمدة. رغم فعاليتها العالية إلا أن استخدامها التجاري محدود بسبب الكلفة المرتفعة وبطء العملية.
التأثير على الخصائص الحسية والقيمة الغذائية
الطعم:
• التحلل الإنزيمي للاكتوز ينتج سكريات أبسط (الجلوكوز والجالاكتوز) ذات حلاوة أعلى مما يُكسب الحليب طعما أكثر حلاوة.
• في الطرق الفيزيائية قد ينتج طعم أخف أو أقل تعقيدا نتيجة إزالة بعض المركبات الذائبة.
القوام:
• الطرق الإنزيمية عادة لا تؤثر على القوام.
• قد تؤدي بعض الطرق الفيزيائية مثل الترشيح إلى تغييرات طفيفة في اللزوجة نتيجة إزالة جزء من مكونات الحليب الدقيقة.
القيمة الغذائية:
• الطرق الإنزيمية تحافظ بشكل كبير على التركيب الغذائي.
• الطرق الفيزيائية قد تؤدي إلى فقدان بعض العناصر مثل الفيتامينات القابلة للذوبان في الماء B2 B12, والمعادن.
خاتمة
أصبحت تقنيات إزالة اللاكتوز من الحليب ضرورة صحية وتجارية مع تزايد انتشار عدم تحمل اللاكتوز عالميا. تقدم الطرق الإنزيمية حلولا فعالة وسهلة التطبيق. في حين توفر الطرق الفيزيائية دقة وتحكما عاليين. يعتمد اختيار التقنية المثلى على طبيعة المنتج النهائي والتكاليف والخصائص الحسية المطلوبة. يتوقع أن تشهد السنوات القادمة تطورات مهمة في هذا المجال خصوصا مع تقدم البيوتكنولوجيا وتطوير إنزيمات نباتية أو مهندسة جينيا مما يسهم في توسيع نطاق المنتجات الخالية من اللاكتوز دون المساس بجودتها.
*باحث أول بقسم بحوث الألبان - معهد بحوث تكنولوجيا الأغذية