موقع الأرض

مذاكر وراسب في الامتحان

-

سألني خبير زراعي سؤالا عجزت عن الإجابة عليه، على الرغم من أنني أعلم من الدروس الزراعية الكثير من المعلومات التي كانت ولا تزال تعينني على تحديد الداء، ووصف الدواء، وذلك بفعل خبرة تراكمية بلغت نحو 51 عاما، حيث التحقت بكتيبة العمل الفلاحي من عمر خمسة أعوام.

الخبير سألني بوصفي "صحفي وإعلامي"، كوني رئيسا لتحرير هذه الوسيلة الإعلامية الإلكترونية، ومقدما لبرنامج على قناة زراعية، تملكها الوزارة التي كانت معنية بالزراعة قبل نحو عقدين من الزمان.

لم يلق الخبير سؤاله محددا وقصيرا ومنتهيا بصيغة استفهام كالعادة، لكنه بلوره وشكله في عدة نقاط، أوردها هنا:

ـ كانت تكلفة فدان العنب والخوخ والمشمش قبل ستة أعوام لا تزيد على 6 آلاف جنيه، وكان وقتها سعر هذه المنتجات مجتمعة، يتراوح بين 4 و6 جنيهات للكيلو جرام في أرضها.

ـ بلغت تكلفة الفدان ذاته من المحاصيل المذكورة، حاليا، نحو 25 ألف جنيه، وتباع منتجاتها بسعر يتراوح بين 4 و8 جنيهات على أرضها.

ـ فدان الموز كان يتكلف قبل خمسة أعوام 45 ألف جنيه، وكان الموز يباع بسعر يتراوح بين 2 و3 جنيهات على أرضه.

ـ الفدان ذاته في الأرض ذاتها، يتكلف حاليا 100 ألف جنيه، ويباع الموز بسعر 2 جنيه أيضا.

* فاجأني الخبير بالسؤال المباعت بعد سرد هذه النقاط التمهيدية:

ـ لماذا لا تثير هذه المسألة في برنامجك على قناة "مصر الزراعية"؟

فاجأت الرجل بأنني اعتذرت عن عدم تقديم برنامجي "الأرض" على قناة "مصر الزراعية"، التي أزعم بأنها أعظم الوسائل الأعلامية المصرية والعربية، لسبب يعرفه القاصي والداني، وهو انقطاع الصلة بين الإعلامي، أو الصحفي، والمسئولين المعنيين بالرسالة.

الملف الذي أراد الخبير الزراعي أن أفتحه، يتعلق ببساطة باختلال المعادلة بين تكاليف مدخلات الإنتاج الزراعي، والعائد من مخرجاته، أي أن الفلاح أصبح مثل نافخ الكير الذي يفقد من سعراته الحرارية ما يكلفه غذاءا بنحو عشرة جنيهات، لينهي عملا لا يزيد أجره على جنيهين، مكتفيا بلقبه بين الناس "مِعلِم".

الفلاح لا يجد عملا آخر غير فلاحة الأرض، وإذا كنا قد وجدنا أن الصانع "بنّاء، خياطا، حدادا، نجارا"، قد ترك مهنته جبرا، وتحول إلى سائق "توكتوك"، فإن الفلاح لا يفعلها حتى لو كان الموت مصيره.

ـ الفلاح زراع الأرز مضطرا، هربا من زراعة محاصيل صيفية لا تجدي، وليست لديه خبرة بها، فكانت نتيجة اقتفاء أثر القطيع، زيادة المساحات المنزرعة عن حاجة الاستهالك المحلي، مع إغلاق باب التصدير، ليباع محصول الفدان من الأرز بأقل من تكلفة المحروقات التي تبخرت في بند الري فقط.

ـ الفلاح حصد محصول بصل موسم 2019، في شهر مايو، وخزنه كالعادة لبيعه جافا، فخرجت له هيئة قومية جديدة مهمتها "سلامة الغذاء"، فتشدقت بقانون صاغتها وفق هواها، ومنتهى أحلامها في أن تكون هيئة ذات صفة رقابية، مالكة لحق الضبطية القضائية، فتتغول على اختصاصات الحجر الزراعي، والرقابة على الصادرات والواردات، وتتسبب في "فرملة" عجلة تصدير البصل، ليهوي سعره أيضا بأقل من بند المبيدات الفطرية فقط.
الغريب أن هذه الأسعار لم تحقق حلم المستهلك بأن يتناسب دخله مع مشترياته، حيث يباع البصل بضعف السعر الذي تحصّل عليه المزارع، ويباع العنب بـ 15 جنيها في السوق للمستهلك، على الرغم من أنه خرج من غيط الفلاح بـ 5 جنيهات فقط، وقس على ذلك معظم المحاصيل، ما عدا الطماطم بوصفها "مجنونة".

وعلى الرغم من جنون الطماطم، فإن عروة فيها، كفيلة بسداد ديون عروتين، ليكون مزارعها أيضا، مثل بناء كلما ارتفع طوبة، جاءت رياح عاتية لتطيح به أرضا.

ومع غياب من توجه إليه رسالة ببعض الحلول العملية، لا أجد بدا من تقديم الحلول حتى لا نصبح هدامين فقط، ومن الحلول ما يلي:

ـ إحياء دور الوزارة التي كانت معنية بالزراعة، قبل أن يتأرجح مصيرها بين وزير عليم محنك، وآخر مشتاق إلى الكرسي واللقب، حتى سقطت سقطتها الأخيرة حاليا.

ـ إلزام وزير التموين والتجارة الداخلية، بتنفيذ ما جاء في تكليفاته وفقا للحقيبة التي يحملها، ومنها: شراء المحاصيل الاستراتيجة والأساسية من الفلاحين والمزارعين، بسعر يحقق الربحية، وفقا للمادة 29 من الدستور المصري.

  • والتركيز هنا على وزارة التموين والتجارة الداخلية، كونها المسئولة عن تموين حاجة المواطن الغذاء وكل ما يلزمه للمعيشة، كما أنها معنية بالتجارة الداخلية، بمعنى امتلاكها عددا من الشركات الصناعية والإنتاجية والتجارية، ذات الإنتاج والتصنيع والتسويق والبيع المباشر للجمهور، من خلال مجمعاتها الاستهلاكية.
  • تحديد الكميات التي يحتاجها الشعب المصري من محاصيل الحبوب، قبل مواسم زراعتها، والتنسيق مع الوزارة التي كانت معنية بالإنتاج الزراعي، وفيها قطاع للشئون الاقتصادية، ويتبعها معهد لبحوث الاقتصاد الزراعي.
  • إلزام وزير التموين من جهة مجلس الوزراء، بضرور إدخال الذرة الشامية البيضاء بنسبة لا تقل 30 % من دقيق رغيف الخبز المدعم، وذلك لاستيعاب كمية جيدة من الذرة، لا تقل 5 ملايين طن، شرط شرائه بسعر يحقق هامش ربح للمزارع، وهو إجراء كفيل بدفع الفلاح إلى زراعته، بدلا من المخالفة وزراعة الأرز.
  • الاتفاق ما بين وزارتي التموين والأوقاف، وهو اقتراح ذكرته عدة مرات في مقالات سابقة، لاستثمار العقارات الوقفية، "الموقوف حالها"، وتتعرض للسرقة والنهب، وهي كثيرة في جميع محافظات مصر ومدنها وقراها ونجوعها، لإنشاء منافذ بيع مباشر للجمهور، على غرار المجمعات الاستهلاكية التابعة لوزارة التموين، بحيث تتولى هيئة السلع التموينة والشركة القابضة للمجمعات الاستهلاكية شراء الحاصلات البستانية الغضة من الفلاح مباشرة، وبيعها للجمهور بسعر يحقق ثلاثة أهداف: هامش ربح للشركة، الربحية للفلاح، والرحمة بالمستهلك.
  • مع اختلال معادة الإنتاج وتكلفة المنتجات، يضطر المزارع لبيع أرضه، ولا يشتريها سوى تاجر الجملة، ليتحول الفلاح إلى أجير لحساب التاجر.