موقع الأرض

«الفلاح» الخباز الجائع على مآدب اللئام

-

شهادة لله ثم للوطن وللتاريخ ... اعتبروها جرس انذار ...

مزراعو مصر ... كأنهم أيتام على موائد اللئام، بل هم أسوأ حالاً، لأن كل خيرات المآدب من زرع أيديهم، ومع ذلك يحاصرهم الفقر والمرض والجوع وقلَّة الحيلة.

الفلاحون والمزارعون، الشريحة الأكثر عملاً والأقل دخلاً.. الشريحة التى تُعيد صناعة أهم أسباب الحياة كل «طلعة شمس»، ومع ذلك يعيشون تحت حد الكفاف، تحت وطأة كوابيس الديون والمبيدات المغشوشة والأسمدة الغالية والتقاوى الفاسدة ونقص المياه وتلوّثها وانعدام الحماية.

أما آن الأوان ليستريحوا ... من مزيد من دورات الأذى والضرر !!

الآن وليس غداً ... مطلوب حتمية إعادة ترتيب وتأهيل المنظومة الزراعية في كل المناطق الزراعية، من ناحية الرقابة الصارمة "جدا" على سوق مستلزمات الانتاج من تقاوي ومبيدات ومخصبات، ومن ناحية اعادة ترتيب وتأهيل التركيب المحصولي ومواعيد الزراعة.

الأمر أصبح لا يحتمل التأخير والتباطؤ ... (مش هينفع يترك المزارع لهذا الكم من المعاناة والتخبط).

مصر ... أقدم حضارة زراعية عرفها العالم، وأول شعب اخترع وسائل رىّ أذهلت الأشجار والنباتات.. واستنبط أصنافاً نباتية وغذائية أطعمت العالم بعد جوع.. جاء الزمن الذى صحونا فيه على حقيقة موجعة، هى أن مصر -أقدم بلد زراعى فى العالم - يستورد أكثر من 75٪ من سلة غذاء شعبه، ويعتمد على الخارج فى تأمين أكثر من 60٪ من طبق الفول اليومى، و60٪ من رغيف الخبز، و95٪ من زيوت الطعام.

فى الوقت ذاته، تبذل مصر أقصى ما تستطيع، لكى تحجز لكبار أثريائها وتجّارها مكاناً فى سوق صادرات السلع الغذائية، التى يحصل عليها المصدّرون من المزارعين بأبخس الأسعار، ويحصدون منها المليارات سنوياً.

منتجون يحاصرهم الفقر.. وعلماء عاجزون عن تطبيق أبحاثهم.. وشركات تتربح "ذهباً" من الاستيراد والتصدير.

فى السنوات الأولى من القرن الحادى والعشرين، أى قبل 18 عاماً فقط، كان لدينا أعظم بيت خبرة فى العلوم والأبحاث الزراعية فى العالم.. وكان لدينا قطاع هائل للإرشاد الزراعى فى وزارة الزراعة، ولكن تعليمات وقرارات غامضة صدرت وتم تطبيقها فوراً على هذه الصروح فانهارت تماماً.

وخلال أعوام قليلة تقلصت ميزانية البحوث فى مركز البحوث الزراعية من 250 مليون جنيه فى السنة إلى 5 ملايين، لا تكفى لشراء أوراق وأقلام أو تمويل بَدل انتقال 13 ألف باحث، كما تقلصت ميزانية قطاع الإرشاد من 40 مليون جنيه إلى 220 ألف جنيه فقط، وبعد أن كان لدينا 25 ألف مرشد زراعى فى نهاية التسعينات ونشكو آنذاك من قلّة عددهم، إذ بنا نكتشف أن عدد المرشدين تراجع فى 2017 إلى 1500 مرشد، كلهم بلا استثناء سيغادرون العمل إلى المعاش بعد أقل من 4 أعوام.

فى هذا المنشور الذي يناقش أهم قضايا الأمن القومى المصرى، وهو مستلزمات الانتاج الزراعي وخاصة "التقاوي الزراعية" سنطالع مفارقات مذهلة، من بينها أن مصر التى باعت شركة نوباسيد لإنتاج التقاوى والبذور، تحولت إلى واحدة من أكبر الدول استيراداً للبذور والتقاوى، وأن عدداً ضخماً من أكفأ الباحثين المصريين فى هذا القطاع يعانون أشد المعاناة من عقبات رهيبة تحاصرهم وتمنعهم من تسجيل أصنافهم المحلية من التقاوى والبذور. والأمر ذاته ينطبق على الباحثين والعلماء فى مجال المخصبات والمبيدات الحيوية.

ولعل ما حدث هذا العام من تدهور لمقاومة بعض اصناف الطماطم للامراض الفيروسية الخطيرة ستكون بداية تدهور وانهيار فى كثير من الاصناف الاخرى وذلك كنتيجة مباشرة للظروف المناخية العنيدة وللاستخدام الجنوني غير المنضبط للمبيدات (المشكوك فيها الى حد كبير).

عشان كده ديما بنقول ... موضوع تغير المناخ لم يعد يحتمل "التجاهل" أو "العناد" أكثر من ذلك، (الامن المناخي اساس الامن الغذائي) يا حضرات!!

ولهذا، أطالب وبشدة بتشكيل "هيئة وطنية محايدة" تتولى مسئولية تسجيل وتقييم التقاوى والمخصبات والمبيدات المصرية، ويتولى جهاز سيادي مسؤولية الاشراف عليها واداراتها، مع تغيير شامل لمنهجية تسجيل وتقييم الاصناف النباتية والمبيدات والمخصبات والتى يتم العمل بها من عشرات السنين، بدون اى مراعاة لكل الظروف "المتغيرة" من مناخ "حاد وعنيد" ومنظومة زراعية وتسويقية عشوائية ومرتبكة وغيرها.

هل من ضوء يلوح فى نهاية هذا النفق المعتم؟. الأفكار كثيرة، والحلول جاهزة متاحة لمن يبحث عنها صادقاً، ولكنها ستظل مثل «إبرة» ضائعة فى بحر الرمال، طالما أن هناك مَن لا يريد لنا الخروج من مذلة الاعتماد على الخارج فى تأمين غذائنا.

* أستاذ المناخ في مركز البحوث الزراعية