الأرض
موقع الأرض

زيت الزيتون.. الوقود الذي أنار حضارات العالم قبل أن يكون غذاءً

م. ياسين حمدي
بقلم: م. ياسين حمدي* -

هل تعلم أن زيت الزيتون، الذي يُعد اليوم من أثمن الأغذية، كان يُستخدم قديمًا كوقود للإنارة أكثر من استخدامه للطعام؟ في الحضارات القديمة مثل اليونان وروما وقرطاج، كان زيت الزيتون ثروة استراتيجية تُقاس بها قوة المدن وازدهارها، ليس لما يؤكل منه فقط، بل لما يضيء به البيوت والمعابد بفضل اشتعاله الهادئ النظيف. حتى إن بعض المدن كانت تعتبر مخزون الزيت معيارًا لمكانتها الاقتصادية.

ويأتي ذلك متسقًا مع الإشارة القرآنية البليغة في قوله تعالى:

﴿شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ﴾

سورة النور (35)، التي تُبرز قيمة هذا الزيت المبارك وقدرته على الإضاءة قبل أن يلامس النار.

استخدامات قديمة متجذرة: ما بين الطقوس والطب والحياة اليومية

1. استخدامات دينية ورمزية

طوفان نوح وغصن الزيتون: ارتبط الزيتون في التراث الديني برمز الحياة والسلام. ففي العهد القديم، عادت الحمامة إلى سفينة نوح بغصن زيتون، فعدّ ذلك إشارة لعودة الحياة وارتفاع الغضب الإلهي.

أكاليل الزيتون في اليونان: ظل إكليل أغصان الزيتون رمزًا للشرف، ووسامًا رسميًا يُتوَّج به الرياضيون في الألعاب الأولمبية القديمة.

طقوس قرطاج الدينية: كان الكهنة يمسحون جباه المحاربين بزيت الزيتون قبل خروجهم للمعارك طلبًا للنصر والحماية. كما كان الصيادون يكسرون أواني الزيت على قواربهم تضرعًا لموسم صيد وفير.

2. رمز للخصب والنماء

في قرطاج، كانت أوراق الزيتون وزيته تُستخدم لصنع أكاليل توضع على رؤوس العرائس كرمز للخصوبة والبركة وبداية حياة جديدة.

3. استخدامات طبية وجمالية

اليونانيون القدماء استخدموا خليطًا من زيت الزيتون البكر الممتاز والماء وشمع العسل ككريم طبيعي يمنح البشرة مرونة ويحافظ على نضارتها.

في حمامات قرطاج العامة، كان المستحمّون يدهنون أجسادهم بزيت الزيتون المخلوط بالرمل الناعم لتنظيف البشرة وتنعيمها.

عادات شعبية وحِكم متوارثة

تقوية المناعة وحفظ الطعام: في البيوت القرطاجية، كانت النساء يخلطن زيت الزيتون بالعسل والبذور لتقوية أجسام الأطفال. كما استُخدم الزيت كطبقة عازلة تُسكب فوق المؤن لحمايتها من العفن والتلف.

التين مع الزيت: عادة شهيرة ارتبطت بالقَسَم الإلهي "والتين والزيتون"، حيث اعتاد الناس وضع التين المجفف في زيت الزيتون لما يجمعه من فوائد غذائية وصحية.

زراعة الزيتون في دير الغصون – فلسطين: اشتهر أهل القرية بزراعة الزيتون في الأراضي الصخرية عبر نقر الصخور وتعبئتها بتربة تُسمى "جلبا"، ما شكّل مدرسة فريدة في فلاحة الزيتون.

ثروة تُقاس بالضوء قبل الغذاء

على الرغم من القيمة الغذائية الهائلة لزيت الزيتون، فإن استخدامه كغذاء كان جزءًا من منظومة أوسع بكثير. فالحضارات القديمة كانت تقيس ثرواتها بما تملكه من زيت قادر على إنارة الشوارع والمعابد والمنازل. ولم يكن مجرد سائل للطهي، بل عنصر حياة، وأداة للحرب والسلم، والعبادة والعلاج، والضوء الذي أنار دروب البشر لقرون طويلة.

خبير وقاضٍ دولي في زيت الزيتون

عضو الجمعية العلمية للصناعات الغذائية – جامعة الإسكندرية