الأرض
موقع الأرض

تأثير البكتيريا النافعة في الألبان المتخمرة على صحة الجهاز الهضمي

د. عطيات سيد دسوقى
بقلم: د. عطيات سيد دسوقي -

ان منتجات الألبان المتخمرة تعد جزءا لا يتجزأ من النظم الغذائية لعدة قرون، ولا يقتصر دورها على توفير المغذيات الأساسية فحسب، بل تمتد فوائدها لتشمل تحسين صحة الجهاز الهضمي. يعود هذا التأثير الإيجابي بشكل كبير إلى وجود البكتيريا النافعة، والتي تعرف بالبروبيوتيك، في هذه المنتجات. يهدف هذا المقال إلى استعراض الدور الحيوي للبكتيريا النافعة الموجودة في الألبان المتخمرة وتأثيرها على تكوين ميكروبيوم الأمعاء ووظائفه، بالإضافة إلى إسهاماتها المحتملة في الوقاية من أمراض الجهاز الهضمي وعلاجها، مع التركيز على الأدلة العلمية المتاحة.

ميكروبيوم الأمعاء وأهميته

يشير مصطلح ميكروبيوم الأمعاء إلى الجينوم الجماعي لمجتمع ميكروبي وهو المجموعة الكاملة من جينات الكائنات الدقيقة التي تشكل ميكروبيوتا الأمعاء، والتي تشمل المادة الوراثية لجميع بكتيريا الأمعاء والفيروسات والفطريات وغيرها من الكائنات الدقيقة.

بالإضافة إلى ذلك، يشير المصطلح أيضا إلى الأنشطة والقدرات الأيضية للكائنات الدقيقة الحالية، مثل المستقلبات التي تنتجها وتستهلكها هذه الكائنات الدقيقة.

يشكل ميكروبيوم الأمعاء البشري (Gut Microbiota - GM) نظاما بيئيا معقدا يضم تريليونات من الكائنات الحية الدقيقة، بما في ذلك البكتيريا والفيروسات والفطريات. يقدر عدد الأنواع الميكروبية في أمعاء الإنسان بما يتراوح بين 1000 و1150 نوعا، ويتجاوز عدد الجينات في الميكروبيوم المعوي عدد الجينات في الجينوم البشري بمقدار 150 مرة. يلعب هذا الميكروبيوم دورا حاسما في العديد من العمليات الفسيولوجية، مثل هضم الطعام، وتركيب الفيتامينات (مثل فيتامين K وبعض فيتامينات (B)، وتحفيز الجهاز المناعي، وحماية الجسم من مسببات الأمراض. أي خلل في تكوين هذا الميكروبيوم، والذي يشار إليه بـ "اختلال التوازن" (Dysbiosis)، يمكن أن يؤدي إلى مجموعة واسعة من المشكلات الصحية، بما في ذلك أمراض الجهاز الهضمي المزمنة مثل مرض التهاب الأمعاء IBD)) ومتلازمة القولون العصبي (IBS) .تؤدي عوامل مثل نمط الحياة غير الصحي، والاستخدام المفرط للمضادات الحيوية، والأنظمة الغذائية الغنية بالأطعمة المصنعة والفقيرة بالألياف، والتعرض للملوثات البيئية إلى تغييرات سلبية في تكوين ميكروبيوم الأمعاء.

البكتيريا النافعة في الألبان المتخمرة

تعتبر منتجات الألبان المتخمرة، مثل الزبادي والكفير ومشروبات اللبن المتخمرة الأخرى، مصادر غنية بالبكتيريا النافعة. تضاف هذه البكتيريا، التي غالبا ما تكون من سلالات Lactobacillus وBifidobacterium، إلى الحليب لبدء عملية التخمير . خلال هذه العملية، تقوم البكتيريا بتحويل اللاكتوز (سكر الحليب) إلى حمض اللاكتيك، مما يمنح المنتج خصائصه الحمضية المميزة، ويحسن من قابلية هضمه، ويساهم في زيادة فترة صلاحيته وسلامته الميكروبيولوجية عن طريق تثبيط نمو الكائنات الدقيقة الضارة. بالإضافة إلى ذلك، تنتج هذه البكتيريا مجموعة من المركبات النشطة بيولوجيا، مثل الأحماض الدهنية قصيرة السلسلة (Short-Chain Fatty Acids - SCFAs) والفيتامينات (مثل فيتامين B12 والفولات) والإنزيمات والمواد المضادة للميكروبات، والتي تلعب أدوارا مهمة في صحة الأمعاء والصحة العامة.

تأثير البكتيريا النافعة على صحة الجهاز الهضمي:

الآليات والنتائج

تمارس البكتيريا النافعة الموجودة في الألبان المتخمرة تأثيرات إيجابية متعددة على صحة الجهاز الهضمي من خلال آليات مختلفة:

1. تعديل تكوين ميكروبيوم الأمعاء وتنوعه:

تساهم البروبيوتيك في زيادة التنوع البيولوجي للكائنات الحية الدقيقة في الأمعاء، وهو مؤشر أساسي على صحة الميكروبيوم وقدرته على الصمود. كما أنها تساعد في استعمار الأمعاء بسلالات بكتيرية مفيدة وتثبيط نمو البكتيريا الضارة والمسببة للأمراض عن طريق التنافس على المغذيات وإنتاج مواد مضادة للميكروبات. هذا التعديل يساهم في إعادة التوازن إلى الميكروبيوم الذي قد يكون قد تعرض للاختلال.

2. تعزيز وظيفة جدار الأمعاء:

تقوي البكتيريا النافعة الروابط المحكمة (Tight Junctions) بين الخلايا الظهارية المعوية، مما يقلل من نفاذية الأمعاء المفرطة (Leaky Gut Syndrome). هذا الحاجز المعوي السليم يمنع مرور السموم غير المرغوب فيها، والمستضدات (antigens)، ومسببات الأمراض من التجويف المعوي إلى مجرى الدم، وبالتالي يقلل من الالتهاب المرتبط بالعديد من الأمراض.

3. تعزيز الاستجابة المناعية :

تتفاعل البروبيوتيك بشكل مباشر وغير مباشر مع الخلايا المناعية الموجودة في الأمعاء، مما يؤثر على الاستجابات المناعية. وقد أُشير إلى قدرتها على تعزيز إنتاج السيتوكينات (الرسائل الكيميائية المناعية) المضادة للالتهاب، مما قد يساهم في تقليل الالتهاب المزمن المرتبط ببعض أمراض الجهاز الهضمي.

4. إنتاج مستقلبات مفيدة:

تنتج البكتيريا النافعة، وخاصة Bifidobacterium وLactobacillus، الأحماض الدهنية قصيرة السلسلة (SCFAs) مثل البيوتيرات، والبروبيونات، والأسيتات . تعد هذه الأحماض مصادر طاقة رئيسية لخلايا القولون (الخلايا المعوية) وتلعب أدوارا مهمة في الحفاظ على صحة الأمعاء، بما في ذلك تنظيم الشهية، ودعم وظيفة الحاجز، وخصائص مضادة للالتهابات ومضادة للسرطان.

5. تخفيف الأعراض الهضمية:

تظهر الأبحاث أن استهلاك منتجات الألبان المتخمرة يمكن أن يخفف من بعض الأعراض الهضمية الشائعة. على سبيل المثال، وجد أنها فعالة في تقليل تكرار الإسهال، خاصة الإسهال المرتبط باستخدام المضادات الحيوية. كما يمكن أن تساعد في تحسين أعراض الإمساك والانتفاخ. ومع ذلك، تشير الابحاث إلى أن الأدلة الحالية على فعاليتها الكاملة في علاج أمراض الجهاز الهضمي المحددة مثل التهاب القولون التقرحي ومتلازمة القولون العصبي لا تزال غير كافية، وتتطلب مزيدا من الدراسات السريرية الدقيقة.

الخلاصة

تقدم البكتيريا النافعة الموجودة في الألبان المتخمرة نهجا غذائيا واعدا لدعم صحة الجهاز الهضمي. من خلال آليات متعددة تشمل تعديل تكوين ووظيفة ميكروبيوم الأمعاء، وتعزيز حاجز الأمعاء، وتعزيز الاستجابات المناعية، وإنتاج مستقبلات مفيدة، تساهم هذه المنتجات في الحفاظ على التوازن الهضمي. على الرغم من أن الأبحاث قد أثبتت فعاليتها في استقرار ميكروبيوم الأمعاء لدى كبار السن وتقليل تكرار الإسهال، إلا أن هناك حاجة ملحة لمزيد من الدراسات السريرية عالية الجودة لتحديد الجرعات المثلى والسلالات البكتيرية الأكثر فعالية ومدة الاستهلاك اللازمة لتحقيق أقصى الفوائد، خاصة فيما يتعلق بالوقاية والعلاج من أمراض الجهاز الهضمي المزمنة. يشجع دمج منتجات الألبان المتخمرة كجزء من نظام غذائي متوازن لتعزيز صحة الجهاز الهضمي العامة.

* باحث بقسم بحوث تكنولوجيا تصنيع الالبان

معهد بحوث تكنولوجيا الاغذية