الأرض
موقع الأرض

تصريحات نارية تكشف أسباب سقوط القطن المصري

اسلام موسى -

يشهد محصول القطن المصري، أحد أعرق المحاصيل الاستراتيجية في مصر، تراجعًا ملحوظًا في المساحات المزروعة، ما يعكس أزمات حقيقية تواجه زراعته، بدءًا من غياب سياسة تسويقية عادلة، مرورًا بتقلبات الأسعار، ووصولاً إلى تحديات المنافسة العالمية. ورغم الجهود البحثية والحكومية المبذولة للحفاظ على "الذهب الأبيض"، إلا أن استمرار التراجع يضع القطاع أمام مفترق طرق حاسم.

غياب التسويق والدعم البنكي يهددان زراعة القطن

يقول الدكتور عبدالناصر رضوان، مدير معهد بحوث القطن، إن التراجع المستمر في المساحات المزروعة بالقطن خلال السنوات الأخيرة، يعود إلى عدة أسباب رئيسية، أبرزها غياب سياسة تسويقية واضحة تضمن سعراً عادلاً وثابتاً للمزارع، يحميه من تقلبات السوق. هذا الوضع يدفع العديد من المزارعين إلى تفضيل محاصيل أخرى مثل الذرة، الأرز، وفول الصويا.

ويضيف أن ارتفاع الفوائد البنكية يفرض ضغوطاً إضافية على التجار، ما يدفع بعضهم للبيع السريع لتجنب تراكم الفوائد، وبالتالي يتم البيع بأسعار منخفضة تؤثر على دخل المزارع.

تحولات عالمية... ومضاربات محلية

ويرى رضوان أن القطن المصري فقد كثيرًا من أسواقه العالمية التقليدية، بعد انتقال صناعة الغزل والنسيج من أوروبا إلى دول جنوب شرق آسيا، مثل الصين والهند، وهي دول منتجة تعتمد على أقطانها المحلية. كما ساهم تعدد شركات القطاع الخاص العاملة في تجارة القطن، وبعضها يعمل بقدرات مالية ضعيفة، في خلق سوق مضاربة عشوائية أضعفت المنظومة بأكملها.

ومن التحديات أيضاً، انتشار المحالج غير المرخصة المعروفة بـ"الدواليب الأهلية"، والتي تخلق سوقًا موازية تؤثر سلبًا على نظام التسويق الرسمي، في الوقت الذي تقدم فيه دول عديدة دعماً مباشراً لمنتجي القطن، ما يجعل من الصعب منافسة أقطانهم المدعومة.

تراجع خطير بالأرقام

بالأرقام، كشف الدكتور عبدالناصر رضوان أن المساحة المزروعة بالقطن منذ مارس وحتى نهاية مايو 2025 بلغت 190 ألف فدان فقط، بتراجع بلغ 39% عن موسم 2024/2023، والذي بلغت فيه المساحات 312 ألف فدان. وشهد الإنتاج كذلك انخفاضًا واضحًا، حيث تم تحقيق 1.56 مليون قنطار زهر و1.60 مليون قنطار شعر، مقارنة بـ2.41 مليون قنطار شعر في موسم 2023/2022.

أما التصدير، فقد شهد أيضًا تراجعًا، حيث تم تصدير 0.713 مليون قنطار شعر فقط في الموسم الحالي، مقابل 1.725 مليون قنطار في موسم 2022/2023، ما يعكس أزمة تسويقية متفاقمة، رغم الجهود الحكومية المبذولة.

منظومة تسويق تحتاج إلى إصلاح جذري

من جانبه، أشار الدكتور محمد أبو اليزيد، مدير محطة سخا للبحوث الزراعية بكفر الشيخ، إلى أن التسويق التعاوني الذي كان متبعًا منذ عهد محمد علي باشا حتى عام 1994، كان يضمن استقرار السوق. لكن بعد تطبيق قانون التجارة الحرة وتحرير الدورة الزراعية، ترك المزارع دون حماية، وأصبح فريسة لتقلبات السوق الحر.

وأضاف أن منظومة التسويق الجديدة التي أُنشئت عام 2019 تحت إشراف الشركة القابضة لوزارة قطاع الأعمال، تسعى للتوازن بين التسويق الحر والتعاوني. ورغم نجاح التجربة مبدئياً، فإن انخفاض الأسعار العالمية عن سعر الضمان الحكومي العام الماضي، دفع شركات التجارة للعزوف عن الشراء، ما تسبب في تأخير مستحقات المزارعين، وأدى إلى انخفاض الحافز على زراعة القطن.

دعوة لتحديث الخريطة الزراعية

من جهة أخرى، يرى محمد المرشدي، رئيس غرفة الصناعات النسيجية باتحاد الصناعات، أن الإصرار على زراعة القطن طويل التيلة، رغم أن 98% من الصناعات النسيجية العالمية تعتمد على الأقطان قصيرة ومتوسطة التيلة، يضع الصناعة في موقف تنافسي صعب.

ودعا المرشدي إلى إعادة تخطيط الخريطة الزراعية، بحيث تقتصر زراعة القطن طويل التيلة على مليون قنطار للاستهلاك المحلي ومثله للتصدير، بينما تُخصص باقي المساحات لزراعة القطن قصير ومتوسط التيلة، وهو ما سيسهم في مضاعفة صادرات الصناعات النسيجية إلى 6 مليارات دولار سنويًا.

التكنولوجيا الذكية مستقبل الزراعة

في سياق متصل، شدد الدكتور أحمد جلال، عميد كلية الزراعة بجامعة عين شمس السابق، على أهمية دمج تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي والري الذكي في زراعة القطن، عبر تطبيقات ذكية تُوجه المزارعين لحظيًا وتقلل التكاليف، مشيرًا إلى أن التكنولوجيا باتت ضرورة وليست رفاهية.

إصلاح تشريعي للحفاظ على الجودة

وحول حماية الأصناف المصرية الأصيلة، قال الدكتور عبدالناصر رضوان إن هناك مراجعة شاملة للتشريعات والقوانين لضمان نقاوة القطن المصري، ومنع زراعة الأقطان الأجنبية، مع تغليظ عقوبات تشغيل المحالج غير المرخصة، وتوسيع زراعة تقاوي الأساس، بهدف تحسين جودة المحصول وزيادة الإنتاجية.

كما أوضح أن هناك توسعًا أفقياً في زراعة القطن بمناطق جديدة مثل سيناء، الفرافرة، توشكى، وأبو سمبل، مع تنفيذ تجارب ناجحة لميكنة زراعة وجني القطن بمحطة بحوث سخا.

الإرشاد الزراعي في قلب المعركة

بدوره، أكد الدكتور علاء عزوز، رئيس قطاع الإرشاد الزراعي، أن الوزارة وضعت خطة متكاملة لتحديث الإرشاد باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وإنشاء حقول إرشادية، ونشر التوعية بالممارسات الزراعية الحديثة.

في حين أشارت المهندسة منى عامر، مدير إدارة القطن والألياف، إلى تنفيذ 89 ندوة إرشادية منذ فبراير وحتى يونيو الماضي، لتدريب المزارعين على أساليب الزراعة الحديثة، ومكافحة الآفات، وتخفيض التكاليف، مع التركيز على تحسين جودة المحصول.

أصناف جديدة تنافس عالميًا

من جانبه، أوضح الدكتور مصطفى عطية عمارة، وكيل معهد بحوث القطن، أن المعهد تمكن من استنباط أصناف تجارية عالية الجودة والإنتاج، تنافس عالميًا، مثل جيزة 92، 96، 86، 94، 95، و98، والتي تتميز بطول التيلة، ومتانة الغزل، وتحمل الحرارة، وتناسب الزراعة الآلية.

وأكد أن هذه الأصناف لا توفر فقط جودة عالية، بل تلبي احتياجات السوقين المحلي والدولي، وتضع القطن المصري من جديد على خارطة التنافس الدولي، إذا ما تم دعمها بسياسات زراعية وتسويقية فعّالة.

خلاصة: القطن المصري بين الواقع والطموح

رغم التحديات العديدة التي تواجه زراعة القطن في مصر، من ضعف التسويق وتراجع المساحات، إلى مشاكل الأسعار والمنافسة العالمية، إلا أن هناك بوادر أمل في ظل الجهود البحثية والتشريعية، وتطوير التكنولوجيا والإرشاد الزراعي. مستقبل القطن المصري لا يزال واعدًا، بشرط أن تتكامل الأدوار بين الدولة والقطاع الخاص والمزارع، لإعادة "الذهب الأبيض" إلى عرشه.