الأرض
موقع الأرض

قصة أبراج الحمام في قنا وأسرارها الكاملة

أبراج الحمام
إسلام موسى -

ليست مجرد هياكل طينية أو مبانٍ شُيّدت عشوائيًا على أطراف القرى، بل تُجسّد أبراج الحمام المنتشرة في محافظة قنا، وتحديدًا بمركز الوقف، جانبًا أصيلًا من التراث الصعيدي الذي حافظ عليه الأهالي جيلًا بعد جيل. هذه الأبراج، التي تبدو للوهلة الأولى كأعمال فنية نُحتت بعناية، تمثل مزيجًا بين الجمال المعماري والوظيفة العملية، حيث بُنيت خصيصًا لتربية الحمام الجبلي الذي يحلّق صباحًا نحو الجبال والمناطق البعيدة ثم يعود مساءً ليستقر في أوكاره داخل الأبراج.

يعود سحر هذه الأبراج إلى تصميمها الفريد، حيث تُشيد عادة من الطوب اللبن أو الأحمر في الأدوار السفلية، فيما يتوّجها برج دائري مزوّد بفتحات صغيرة تسمح بمرور الهواء ودخول الحمام. أما من الداخل، فتنقسم إلى غرف صغيرة تحتضن الطيور، ويتوسطها حوض مياه يشبه الساقية ليشرب منه الحمام. ويُراعي في تصميم القبة أو الشكل الهرمي أعلى البرج الحفاظ على توازن الحرارة، ما يضمن بيئة مناسبة للطيور في مختلف الفصول.

يقول جمال أبو الوفا، أحد أبناء مركز الوقف وصاحب أحد الأبراج، إن تشييد هذه الأبراج يتطلب دقة ومهارة كبيرة، خاصة أن المواد المستخدمة - مثل الطين والفخار - تحتاج إلى عناية فائقة. وغالبًا ما تُبنى الأبراج على أطراف القرى أو قرب الأراضي الزراعية لتكون قريبة من مصادر الغذاء، ويستغرق إنشاؤها عدة أشهر في حال كانت كبيرة الحجم.

ويضيف أبو الوفا أن تربية الحمام ليست مجرد هواية أو موروث اجتماعي، بل لها أبعاد اقتصادية ملموسة، إذ يُعد "فرخ الحمام" من الأطعمة المفضلة لدى أهالي الصعيد ويُباع بأسعار مجزية، ما يجعل تربيته مصدر دخل إضافي للعديد من الأسر.

لكن الفائدة لا تتوقف عند الجانب الاقتصادي، إذ ترتبط أبراج الحمام في قنا أيضًا بعادات شعبية متجذرة. ويوضح أبو الوفا أن بعض الأهالي يستخدمون الحمام في ممارسات ترتبط بالشفاء أو فك السحر، بل إن بعض النساء يذبحن فرخ الحمام على رؤوس أطفالهن الذين تأخروا في النطق، اعتقادًا بقدرته على المساعدة في الشفاء. كما تتبرك به سيدات أخريات باعتباره رمزًا للحماية ودفع الضرر.

ورغم التطور العمراني وتراجع هذه الظاهرة في بعض المناطق، لا تزال أبراج الحمام في قنا تقف شامخة كدليل حيّ على التراث الجنوبي، حاملة بين طياتها قصصًا من التاريخ والحياة اليومية، وموفرة بيئة طبيعية فريدة لتربية الحمام في مشهد لا تخطئه عين الزائر أو العابر.