رحلة اللبن من السيولة إلى كنز غذائي

أكدت الدكتورة أميرة صابر عبدالسلام، الباحثة بقسم بحوث تكنولوجيا تصنيع الألبان بمعهد بحوث تكنولوجيا الأغذية، مركز البحوث الزراعية، أن استخدام المواد المُجبِّنة يُعدّ حجر الأساس في تحويل اللبن من مادة سائلة سريعة التلف إلى منتج غذائي مُعمّر، عالي القيمة، غني بالنكهات، ومتعدد الأصناف، وهو ما نعرفه اليوم باسم "الجبن".
وأشارت إلى أن هناك اختلاف بين العلماء حول وضع تصنيف دقيق لأنواع المواد المُجبِّنة، إلا أن المرجعيات العلمية عادة ما تقسمها وفقاً لنوع الجبن المُراد إنتاجه، نظراً لتعدد الطرق والوسائل المستخدمة في عمليات التجبُّن.
الكازين... البروتين السحري في اللبن
تشير د. أميرة إلى أن جوهر عملية التجبن يتمحور حول بروتين اللبن الأساسي: الكازين، الذي يشكل حوالي 80% من مجموع البروتينات في الحليب. ويُعد الكازين مركباً معقداً من كازينات الكالسيوم والفوسفات، ويُحاط بجزيء خاص يُعرف بـ"كابا كازين"، الذي يحافظ على استقرار الكازين في صورة غروانية داخل اللبن، مانعاً ترسبه بفعل الكالسيوم الحر.
أنواع التجبُّن: بين الإنزيمات والطبيعة والحرارة
1. التجبن الإنزيمي: الأكثر شيوعاً
يُعتبر التجبن الإنزيمي أكثر أنواع التجبُّن استخداماً في صناعة الجبن، ويعتمد على إنزيمات مستخرجة من مصادر حيوانية أو ميكروبية أو نباتية.
المنفحة الحيوانية (Rennet):
وهي الإنزيم الطبيعي الموجود في المعدة الرابعة للعجول الرضيعة، وتحتوي على إنزيم "الرنين" الذي يُعد الأعلى قدرة على تجبُّن اللبن، مقارنة بإنزيم "الببسين" المتواجد في الحيوانات الأكبر سناً. وتتوفر المنفحة في صور سائلة، جافة (مسحوق)، أو أقراص، مع العلم أن الشكل المجفف أكثر تركيزاً بعشر مرات من الشكل السائل، مما يمنحه سهولة التخزين وطول فترة الصلاحية.
المنفحة الميكروبية:
يتم إنتاجها من كائنات دقيقة مثل الفطريات (Mucor miehei وMucor pusillus) والبكتيريا. لكن يلاحظ أن الإنزيمات ذات الأصل الفطري أفضل من البكتيرية، حيث إنها أقل تسبباً في التحلل الزائد للكازين وأخف في إنتاج النكهات غير المرغوبة.
المنفحة النباتية:
تعتمد على إنزيمات مستخرجة من النباتات مثل البابائين (من البابايا)، الفيسين (من التين)، والبروميلين (من ساق الأناناس). تُستخدم هذه البدائل بشكل متزايد، خاصة في ظل الطلب المتصاعد على المنتجات النباتية والنباتيين.
2. التجبن الحامضي: عندما تتحدث الأحماض
في هذا النوع من التجبُّن، تتفاعل جزيئات الكازين مع الأحماض، وخاصة حمض اللاكتيك، الناتج من تخمر سكر اللبن بفعل الفلورا الطبيعية أو البادئات المضافة. ويحدث التجبُّن عند وصول درجة الحموضة (pH) إلى 4.6، وهي نقطة التعادل الكهربائي للكازين، حيث تتجمع الجزيئات مكونة خثرة اللبن.
هذا النوع شائع في إنتاج الجبن منخفض الدسم مثل "الجبن القريش"، حيث يمنح الخثرة نعومة ملموسة وطعماً دسم الملمس نظراً لاحتفاظها بنسبة رطوبة مرتفعة.
أنواع التجبن الحامضي:
تجبن ميكروبي باستخدام البادئات:
تعتمد هذه الطريقة على مزارع بكتيريا حمض اللاكتيك، والتي لا تقتصر فائدتها على توليد الحموضة فقط، بل تُسهم أيضاً في منح الجبن نكهته المميزة. وتُستخدم بادئات مختلفة بحسب نوع الجبن، سواء من بكتيريا مفردة أو مزيج من عدة أنواع، كما تُحفظ في صور سائلة أو مجمدة.
أمثلة على البادئات:
Propionibacterium freudenreichii في الجبن السويسري.
Brevibacterium linens في الجبن السطحي مثل بري ولامبرجر.
Penicillium camemberti وPenicillium roqueforti لصناعة الجبن الكاممبرت والركفور.
التجبن بالأحماض المضافة مباشرة:
تشمل أحماض عضوية مثل اللاكتيك، الخليك، الستريك، وأخرى معدنية مثل الفوسفوريك والهيدروكلوريك. ويُعد هذا النوع من التجبن فعالاً في تقليل زمن التصنيع والتخلص من مشاكل محتملة مثل تلوث البادئات أو وجود مضادات حيوية في اللبن.
3. التجبن بالحرارة والحامض معاً (Acid & Heat):
تُستخدم هذه الطريقة في تصنيع أنواع مثل جبن Ricotta وQueso blanco، حيث يُسخّن الشرش ويُضاف إليه حمض مثل حمض الفوسفوريك أو الستريك أو الخليك، ما يؤدي إلى ترسيب البروتينات وتكوين الخثرة.
دور المضافات: تحسين الأداء وزيادة العائد
لتحسين خواص الجبن النهائية، تُستخدم بعض المواد المساعدة مثل كلوريد الكالسيوم أو هيدروكسيد الكالسيوم، والتي تُسرّع عملية التجبن، وتُزيد من تماسك الخثرة، وتُحسّن القوام النهائي للمنتج.
خلاصة علمية... وطريق غذائي واعد
تختتم د. أميرة حديثها بالتأكيد على أن استخدام المنفحة الحيوانية، خصوصاً في صورتها الجافة، لا يزال الأفضل والأكثر شيوعاً في صناعة الجبن لما توفره من نتائج محسنة من حيث الطعم، القوام، وسهولة التداول.