خطة مصرية لتحويل التوت إلى سلعة استراتيجية

قال الدكتور أسامة محمد غازي، رئيس قسم بحوث الحرير بمعهد بحوث وقاية النبات بمركز البحوث الزراعية، في ظل مساعي الدولة المستمرة لتبني مشروعات تنموية ذات عوائد اقتصادية مستدامة، يبرز مشروع إحياء صناعة الحرير الطبيعي كواحد من أهم المشروعات القومية المرتقبة، بما يمثّله من قيمة اقتصادية كبيرة، وفرص تشغيل متعددة، خاصة في المناطق الريفية، حيث تتداخل الزراعة والصناعة معًا في منظومة متكاملة، تعتمد على موارد محلية، وتنتج ثروة قومية يُمكن أن تضع مصر على خارطة إنتاج وتصدير الحرير عالميًا.
من دودة القز إلى الخيوط الذهبية... رحلة إنتاج الحرير
وأوضح رئيس قسم بحوث الحرير بمعهد بحوث وقاية النبات، أن الحرير الطبيعي يُنتج أساسًا من ديدان القز، وتحديدًا "دودة التوت"، التي تتغذى على أوراق أشجار التوت حتى تنتج الشرانق، والتي يتم حلّها في ماكينات مخصصة لاستخلاص خيوط الحرير الخام.
هذه العملية لا تقتصر على جانب زراعي فحسب، بل تُعد نموذجًا لدمج الزراعة بالصناعة، وتبدأ بزراعة أشجار التوت، ثم تربية الديدان، ثم جمع الشرانق، وأخيرًا تحويلها إلى خيوط تُستخدم في صناعات متعددة، أبرزها المنسوجات، والسجاد، ومستحضرات التجميل.
صناعة تعزز مشاركة المرأة وتدعم الأسرة الريفية
وأشار غازي إلى أن نسبة مشاركة المرأة في هذا النشاط تتجاوز 60%، وهو ما يجعل صناعة الحرير واحدة من الأنشطة القليلة التي تستوعب المرأة الريفية بفعالية. كما تتيح تربية دودة القز فرصًا لتحقيق دخل مستدام للأسر، وتقلل من نسب البطالة، وتنسجم مع أهداف التنمية المستدامة في رؤية "مصر 2030".
قرى منتجة... ومشروع تنموي متكامل
يؤكد غازي أنه يمكن استثمار هذه الصناعة لإنشاء قرى متخصصة في كل مرحلة من مراحل إنتاج الحرير، منها:
قرى لإنتاج الشرانق.
قرى لحل الحرير واستخلاص الخيوط الخام.
قرى للغزل والنسج وتصنيع الأقمشة والسجاد.
قرى لتعبئة أوراق التوت وإنتاج العصائر والمربات.
قرى لتحويل فروع التوت إلى أخشاب ومنتجات أخرى.
ولتنفيذ ذلك على الأرض، يُقترح زراعة أشجار التوت على جوانب الترع والمصارف، والأراضي المهملة داخل القرى، بشرط عدم استخدام المبيدات الكيميائية، ويمكن للمحافظات، والجمعيات الأهلية، وحتى رجال الأعمال، المساهمة في توفير الأراضي وزراعتها بالتوت، مما يخلق منظومة اقتصادية متكاملة تعود بالنفع على الجميع.
مراكز تربية وتعاونيات لتحقيق الربحية وزيادة الإنتاج
لفت رئيس قسم بحوث الحرير إلى إمكانية إنشاء مراكز تربية تعاونية، تهدف إلى إنتاج الأعمار الأولى من الديدان وبيعها للمربين في الأعمار المتقدمة، وهي مرحلة تحتاج إلى نظافة دقيقة وبيئة خالية من العدوى، ما يرفع إنتاجية اليرقات، ويزيد من ربحية المشروع.
وأكد أن تربية علبة واحدة من بيض دود الحرير يمكن أن تتضاعف أرباحها عند حسن إدارتها، لافتًا إلى أن المكان الواحد يستطيع تربية أكثر من علبة، مما يعزز الربحية.
مشروع قومى لإحياء صناعة الحرير
وفي هذا السياق، كشفت الدكتورة سحر السيد الوكيل، رئيس وحدة بحوث الاقتصاد الزراعي بمعهد بحوث الاقتصاد الزراعي، عن مقترح لمشروع قومي تحت عنوان:
"نحو إحياء صناعة الحرير الطبيعي في مصر لتحقيق الاكتفاء الذاتي وزيادة القيمة المضافة والتصدير."
وذكرت أن دراسة جدوى شاملة أعدّتها توضح أن مصر قادرة على إنتاج أكثر من 100 طن من الحرير سنويًا، باستخدام الموارد المحلية، ودون الحاجة إلى مساحات شاسعة أو استثمارات ضخمة، بل عبر استغلال الأراضي المتوفرة في الدلتا وبعض الأراضي الصحراوية القريبة من مصادر المياه.
أرباح واعدة ونتائج قابلة للتطبيق الفوري
طبقًا للدراسة التي أجريت في محافظة المنوفية، تبين أن الطاقة الإنتاجية للمحافظة وحدها قد تصل إلى 12 طنًا من الحرير سنويًا، بينما يمكن تعميم النموذج على باقي المحافظات ليصل إجمالي الإنتاج القومي إلى 195 طنًا سنويًا.
في قرية "ساقية أبو شعرة"، المشهورة بصناعة السجاد اليدوي، أوضحت الدراسة أن إنتاج 616 مترًا من سجاد الحرير يمكن أن يدر عائدًا يبلغ 9.3 مليون جنيه محليًا، و23 مليونًا في حال التصدير، ما يؤكد أهمية التوسع في هذه الصناعة.
عوائد اقتصادية واجتماعية ملموسة
أشارت الوكيل إلى أن صافي العائد من تربية علبة واحدة من ديدان القز يصل إلى 3000 جنيه في الدورة الواحدة، ويمكن تربية 5 إلى 6 دورات سنويًا، مما يوفر مصدر دخل حقيقي لما يزيد عن 4300 مستفيد من شباب ونساء في الريف.
وأكدت أن المشروع يُسهم في توفير فرص عمل حقيقية، وخلق قيمة مضافة تصل إلى 8 ملايين جنيه في مراحل الإنتاج المختلفة، مشيرة إلى أن ما يميز صناعة الحرير هو أنها تمر بعدة مراحل متداخلة تفتح أبوابًا واسعة لفرص تشغيل متكررة ومستمرة.
توصيات لتسريع التنفيذ وتحقيق الأهداف
اختتمت الدكتورة سحر الوكيل حديثها بسلسلة من التوصيات المهمة، أبرزها:
زراعة أشجار التوت على جوانب الترع والمصارف لتوفير الورق وتقليل التلوث.
تدريب مهندسي الإرشاد الزراعي على تربية ديدان الحرير.
نقل الخبرات الصينية واليابانية إلى المزارعين والمستثمرين المحليين.
تطبيق نماذج إنتاج صغيرة ناجحة من دول مثل الصين والهند.
تفعيل دور الصناديق الاجتماعية في تمويل المشاريع الصغيرة والمرأة المعيلة.
صناعة تنبع من الأرض... وتصنع مستقبلًا اقتصاديًا جديدًا
إن إعادة إحياء صناعة الحرير في مصر ليست ترفًا أو رفاهية، بل هي استثمار ذكي في قطاع زراعي صناعي متكامل، يُعيد للريف المصري دوره الإنتاجي، ويُعزز من قدرة الدولة على تحقيق الاكتفاء الذاتي في أحد أرقى وأغلى المنتجات العالمية.إنها دعوة مفتوحة لكل من يبحث عن مشروع ناجح، ولكل جهة مسؤولة تسعى للنهوض بالاقتصاد الوطني من الجذور، لتعود "أشجار التوت" رمزًا للخصوبة... و"خيوط الحرير" خريطة جديدة للنمو والتصدير.