الأربعاء 24 أبريل 2024 مـ 09:09 صـ 15 شوال 1445 هـ
موقع الأرض
رئيس مجلس الإدارةخالد سيفرئيس التحريرمحمود البرغوثيالمدير العاممحمد صبحي

الفيوم بين غصن زيتون وعبوة متفجرات

لم يكن على سبيل الخطأ أو التشويه العمد، وصف الفيوم بمفرخة الإرهابيين والتكفيرين، خلال الأيام القليلة الماضية التي أعقبت حادث تفجير الكنيسة البطرسية في القاهرة، خاصة إذا كان الوصف تعبيرا عاطفيا لجريمة هزت أرض مصر بقطبيها المسلم والمسيحي، لكن من وصفوها بهذه الصفات القاسية، ربما لم يكونوا على علم بخريطتها البشرية والإنسانية والاجتماعية المزهرة.

محمود شفيق طالب "علوم الأزهر" سلم نفسه لمدرسة "الحشاشين"، ليخضع فيها لعملية تحوير من إنسان إلى قنبلة، مع وعد أكيد ومدموغ من أمير الشر داخل المدرسة، بأنه سيرتمي في أحضان الحور العين، فور تفجير نفسه داخل بيت من بيوت العبادة المسيحية، كون مرتاديها لا يؤمنون بإله جماعتهم.

أما محمود أيوب ربيع هيبة، الذي أكمل السابعة من عمره في بداية موسم حصاد زيتون 2016، فقد أسلمه والده إلى مقاول "أنفار"، ليس لاستعباده أو قمع طفولته، كما تقول منظمات المجتمع المدني التي تعمل في مجال حماية الطفولة، لكن لتدريبه على أن يكون فاعلا ومنتجا، مع غيره من الأطفال الذين تحروت أسماؤهم إلى كريم وضياء، وهي أسماء حديثة على أهل الفيوم، الذين يجتهدون في إبعاد أبنائهم عن أيدي سماسرة القنابل البشرية.

أهل الفيوم أنفسهم، لا يجزعون من وصف محافظتهم وقراهم بأنها الأفقر على خريطة مصر ـ واقعا، وليس كما تقول الدراسات المسحية التقليدية، ما يجعل منها، كَرها لا طوعا، أرضا خصبة لاستنبات بذرة التطرف.

عاوز عمال لجمع الطماطم أو الزيتون، فليس أمامك سوى الفيوم.

عاوز عمال لمزارع الزيتون والرمان والنخيل والمانجو والأعناب .. فالفيوم قبلتك.

لكن الفيوم التي كانت قبلة يوسف عليه السلام، كأي قرية مصرية، "تغربلها" فيسقط 95 % من أبنائها تحت الغربال، وتظل النسبة الباقية القليلة غير قادرة على ضخ النور في نسيج الواحة الغناء، التي استقرت على طرف ثوبها أيضا بحيرة قارون، تلك التي كانت تجتذب أكثر من 40 % من سياح مصر، ليلتقطوا صورا تذكارية مع النوارس، وليأكلوا في مطاعمها الحمام والبط البلدي، اللذين اشتهرت بهما المدينة، قبل أن تخمد سواقيها السبع، لتنبت وسط ملاحاتها وقفارها وأحراشها وعششها، بذور الشر والفتن.

الإحصاءات تقول إن 95 % من سكان الفيوم يعيشون تحت خط الفقر، لكن أهلها ـ وليس شرطا أن يكونوا من ساكنيها حاليا ـ يؤكدون أن أثرياءها قادرون على ضخ الحياة في خلاياها الميتة ـ إذا أذنت ضمائرهم بالاتجاه إلى الصحراء التي تحيط بها من ثلاث جهات، لاستصلاح الأراضي وزراعتها، وإنشاء صناعات حديثة لحاصلاتها البستانية والحقلية، وفي ذلك فرصة طبيعية لتجفيف منابع القنابل البشرية، بإعادة الستر إلى البيوت التي أظلمها الجوع والفقر.

الفقر والنبل لا يجتمعان إلى في فقراء الفيوم، وهو ما يظهر جليا في عمالهم الذين ينتشرون في مزارع صحاري مصر، الأكثر وحشة، والأصعب ظَرفا، والأقسى معيشة، ومخالطة أبناء الفيوم تظهر الكثير من عزة النفس، حيث يبدأ سن العمل فيها من السادسة، فيما تدق ساعة العمل في مساكنهم بـ "لياح" الفجر، ولا تكف الأيادي عن التقاط الأرزاق قبل اختلاط سواد حبات الزيتون بظلام الليل.

تاريخيا كانت الفيوم بحيرة، يغمرها الفيضان ثم ينحسر، إلى أن قدم إليها يوسف عليها السلام، فحفر ترعته الشهيرة باسم "بحر يوسف"، ليحولها من أحراش إلى جزء ثري من سلة غلال مصر التي عبر بها السنوات العجاف، وليس طبيعيا أن يعيدها الإهمال الحكومي إلى ما قبل يوسف عليه السلام، فتكون بيوتها الفقيرة ومشاريعها السياحية التي أفُلت نجومها، سببا في تفريخ التطرف والمتطرفين.

ومع التوسع الزراعي في صحاري مصر، تقف الرقعة الزراعية في الفيوم عند أقل من نصف مليون فدان، يتزاحم عليها سكان يزداد عددهم سنويا، بنسبة عشوائية، نتيجة عدم الوعي بمخاطرالانفجار السكاني، حيث ارتفع عدد سكان محافظة الفيوم من نحو 2.56 مليون نسمة عام 2007، ليصل إلى نحو أربعة ملايين نسمة حاليا، في تقديرات غير رسمية، مع ثبات الرقعة الزراعية، وانحسار فرص العمل، ليكون مصير شبابها فلاحة الأراضي البعيدة، تاركين أرضهم التي تحمل صفتي "الوادي والدلتا" في آن.

كانت الفيوم قبل ثورة يوليو 1952 قبلة الخديوية والملكية، حيث كثرت فيها قصورهم، ومزارعهم، وشاليهاتهم على بحيرة قارون، كما كانت أكثر الحدائق وأجودها لإنتاج المانجو والأعناب والليمون، واهتم كثيرا بها كمنطقة زراعية محمد محمود باشا حين كان مديرا لها، حتى أنه انفجر غاضبا في وجه مأمور زراعة الخاصة الخديوية أمام الخديوي عباس حلمي اعتراضا على وضع الزراعة فيها، ليكون الموقف سببا في قطع زيارة الخديوي للفيوم آنذاك.

وعرفت نساء الفيوم التعليم قبل دخول المدارس هناك، فحين عُيِن محمد محمود باشا رئيسا لوزراء مصر في عهد فؤاد الأول، اتصل بأعيان الفيوم الذين كان يعرفهم حين عمل مديرا للفيوم قبل الحرب العالمية الثانية، وذلك لإلحاق بناتهم بمدرسة المعلمات السِنية في القاهرة، ومن بين من التحقن بها، عائشة حسنين التي بلغت منصب وكيل وزارة المعارف سابقا، والسيدة زينب الجارحي أم الدكتور يوسف والي وزير الزراعة ونائب رئيس مجلس الوزراء الأسبق، والتي أنجبت سبعة أبناء ذكور وابنتين، منهم من عمل وزيراً للبترول في مصر، ومنهم من عمل سفيرا، ومنهم من كان عميدا لكلية الزراعة جامعة الأزهر، كما كان أحدهم مستشارا في وزارة العدل.

وحينما أطلق الرئيس السيسي مشروع المليون ونصف المليون فدان، لم ينتبه المخططون، إلى أن الفيوم تقع فى الصحراء الغربية في الجنوب الغربي من محافظة القاهرة، وعلى مسافة 90 كيلو مترا فقط، وتحيطها الصحراء من كل جانب، فيما عدا الجنوب الشرقــي المتصل بمحافظة بني سويف، وأن مساحتها الزراعية تنحصر في حدود 425 ألف فدان، يعيش عليها نحو أربعة ملايين نسمة حاليا، موزعين على ستة مراكز، يتبعها 61 وحدة محلية قروية، بـ 163 قرية، وكان حريا بصانعي القرار أن يُدخلو الفيوم ضمن التوسعات الزراعية، بدلا من تجاهلها، وتركها لمزيد من الفقر، الذي يسلم أبناءها إلى المجهول.

 

موضوعات متعلقة